عنوان الفتوى : ما حكم الجماعة الثانية في المسجد، عند أهل المذاهب الأربعة؟
ما هو الرأي في عقد الجماعة الثانية في جميع المذاهب عدا الحنابلة؟
الحمد لله.
إقامة جماعة من المصلين لجماعة ثانية في المسجد، هذا التصرف له صور، منها المتفق على حكمه، ومنها المختلف فيه.
الصورة الأولى:
أن يكون تعدد الجماعات سببه تفرق الناس على أحزاب وفرق ومذاهب، فيرتب في المسجد الواحد أكثر من جماعة بصفة دائمة ، وكل جماعة لها إمامها ووقتها المعلوم .
فهذه الصورة لا تشرع باتفاق أهل العلم.
جاء في "مواهب الجليل" للحطاب رحمه الله تعالى:
" فأما إقامة صلاة واحدة بإمامين راتبين، يحضر كل واحد من الإمامين فيتقدم أحدهما، وهو الذي رُتب ليصلي أولا، وتجلس الجماعة الأخرى وإمامهم عكوفا حتى يفرغ الأول، ثم يقيمون صلاتهم: فهذا مما لم يقل به أحد؛ ولا يمكن أحدا أن يحكي مثل هذا القول عن أحد من الفقهاء، لا فعلا ولا قولا.
فكيف بإمامين يقيمان الصلاة في وقت واحد، يقول كل واحد منهما حي على الصلاة، ويكبر كل واحد منهما، وأهل القدوة مختلطون، ويسمع كل واحد قراءة الآخر؛ فهؤلاء زادوا على الخلاف الذي لسلف الأمة وخلفها، ومخالفة قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( لا يجهر بعضكم على بعض بالقرآن )..." انتهى من "مواهب الجليل" (2/380).
الصورة الثانية:
أن تكون إقامة الجماعة الثانية، في مسجد ليس له إمام راتب، كحال بعض المساجد التي تكون على طرق المسافرين، فهذه تشرع فيها تعدد الجماعات بالاتفاق.
قال النووي رحمه الله تعالى: " في مذاهب العلماء في إقامة الجماعة في مسجد أقيمت فيه جماعة قبلها:
أما إذا لم يكن له إمام راتب فلا كراهة في الجماعة الثانية والثالثة وأكثر بالإجماع " انتهى من "المجموع" (4/222).
الصورة الثالثة:
وهي إقامة جماعة ثانية، لسبب عارض، في مسجد له إمام راتب.
فجمهور أهل العلم من الحنفية والمالكية والشافعية على كراهة الجماعة الثانية في هذه الحال.
قال النووي رحمه الله: " وأما إذا كان له إمام راتب وليس المسجد مطروقا:
فمذهبنا كراهة الجماعة الثانية بغير إذنه وبه قال عثمان البتي والأوزاعي ومالك والليث والثوري وأبو حنيفة.
وقال أحمد واسحق وداود وابن المنذر لا يكره" انتهى من "المجموع" (4/222).
وقال الإمام أبو بكر بن المنذر رحمه الله تعالى:
" باب الرخصة في الصلاة جماعة في المسجد الذي قد صلى فيه الإمام بأصحابه.
قال أبو بكر:
روينا أن رجلاً دخل المسجد وقد صلى النبي- صلى الله عليه وسلم فقال: (ألا رجل يتصدق على هذا فيصلى معه).
وقد اختُلف في هذا:
ثبت عن أنس أنه صلى جماعة بعد صلاة الإمام، وروي ذلك عن ابن مسعود، وبه قال عطاء، والنخعي، والحسن البصرى، وقتادة، وأحمد، وإسحاق، واحتج أحمد بقول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة الجمع تزيد على صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة).
وقالت طائفة: لا يجمع في المسجد مرتين، هذا قول سالم بن عبد الله، وبه قال أبو قلابة، وابن عون، وأيوب، وعثمان البتي، ومالك، والليث بن سعد، وسفيان الثوري، والأوزاعي، والشافعي، وأصحاب الرأي...
قال أبو بكر بن المنذر: بالقول الأول أقول " انتهى من "الإشراف على مذاهب العلماء" (2/ 146 — 147).
وهذا القول الذي اختاره ابن المنذر هو الصحيح ، لدلالة السنة عليه .
قال ابن المنذر، رحمه الله، في موضع آخر:
" ثبت أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال: صلاة الجميع تفضل صلاة الفذ بسبع وعشرين درجة ، وثبت عنه أنه قال: صلاة الرجل مع الرجل أزكى من صلاته وحده، وصلاة الرجل مع الثلاثة أزكى، وما كثر فهو أحب إلى الله.
وحديث أبي سعيد [ أَنَّ رَجُلًا جَاءَ وَقَدْ صَلَّى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: " أَلَا رَجُلٌ يَتَصَدَّقُ عَلَى هَذَا فَيُصَلِّيَ مَعَهُ ] : ثابت.
فإذا فات جماعةُ الصلاة مع الإمام، صلوا جماعة؛ اتباعا لحديث أبي سعيد، وطلبا لفضل الجماعة، ولا نعلم مع من كره ذلك ومنع منه حجة". انتهى من "الأوسط" (4/248).
وينظر جواب السؤال رقم: (87847) ففيه فتوى للشيخ ابن عثيمين في هذه المسألة.
ولكن استكمالا للبحث ننقل أقوال سائر المذاهب .
قال بدر الدين العيني الحنفي رحمه الله تعالى:
" يكره عندنا تكرار الجماعة في مسجد واحد" انتهى من "البناية" (2/580).
وقال يحيى بن يحيى الليثي:
" وَسُئِلَ مَالِكٌ عَنْ مُؤَذِّنٍ أَذَّنَ لِقَوْمٍ، ثُمَّ انْتَظَرَ هَلْ يَأْتِيهِ أَحَدٌ؟ فَلَمْ يَأْتِهِ أَحَدٌ، فَأَقَامَ الصَّلَاةَ، وَصَلَّى وَحْدَهُ، ثُمَّ جَاءَ النَّاسُ بَعْدَ أَنْ فَرَغَ، أَيُعِيدُ الصَّلَاةَ مَعَهُمْ؟ قَالَ: لَا يُعِيدُ الصَّلَاةَ. وَمَنْ جَاءَ بَعْدَ انْصِرَافِهِ، فَلْيُصَلِّ لِنَفْسِهِ وَحْدَهُ " انتهى من "موطأ مالك، رواية يحيى" (1/ 72).
وقال الشافعي رحمه الله تعالى:
" وإذا كان للمسجد إمام راتب ففاتت رجلا أو رجالا فيه الصلاة، صلوا فرادى، ولا أحب أن يصلوا فيه جماعة، فإن فعلوا أجزأتهم الجماعة فيه، وإنما كرهت ذلك لهم؛ لأنه ليس مما فعل السلف قبلنا، بل قد عابه بعضهم " انتهى من "الأم" (2/292).
وينظر ما سبق في جواب السؤال رقم: (87847)، ورقم: (127293)، ورقم: (146916).
والله أعلم.