عنوان الفتوى : منّ الله عليه بالهداية، ثم شُغل بكثرة الجدل وقلة العمل!
منَّ الله تعالى علي بالهداية، ولله الحمد والمنة، لكن بعد مدة بدأت أبعد عن الله تعالى، بالرغم من إرادتي بطلب العلم ومحاولة إصلاح نفسي، وقل عملي وكثر كلامي،وقد سمعت حديث: (ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل في الدين)، وهذا بالضبط ما أنا فيه. وسؤالي هو: كيف أعود للهدى، وأترك الهوى والجدل؟ وإذا أمكن بيان ما معنى هذا الحديث؟ المرجو التفصيل، وكونوا لي من الناصحين.
الحمد لله.
أولا:
رجوع العبد عن خير كان فيه، له أسباب:
لعل من أخطرها؛ استصغار العبد نعمة الهداية وعدم شكرها، فقد وعد الله تعالى الشاكر بالزيادة.
قال الله تعالى: وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ إبراهيم/7.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
"والتحقيق: أن الزيادة من النعم، وطاعته من أجلّ نعمه" انتهى من "عدة الصابرين" (ص 283).
ومن الأسباب أيضا، شماتة العبد بإخوانه المسلمين المقصرين، والافتخار عليهم بما وفق إليه من الطاعة.
فعلى المسلم أن يحب لإخوانه ما يحب لنفسه من الطاعات والخير ويدعو لهم بظهر الغيب.
كما في حديث أَبِي الدَّرْدَاءِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا مِنْ عَبْدٍ مُسْلِمٍ يَدْعُو لِأَخِيهِ بِظَهْرِ الْغَيْبِ، إِلَّا قَالَ الْمَلَكُ: وَلَكَ بِمِثْلٍ رواه مسلم (2732).
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:
"له من الأجر بمثل ما دعا به؛ لأنه وإن دعا لغيره فقد عمل عملين صالحين: أحدهما: ذكر الله تعالى مخلصا له، وفازعا إليه بلسانه وقلبه. والثانى: محبته الخير لأخيه المسلم ودعاؤه له، وهو عمل خير لمسلم يؤجر عليه، وقد نص فيه أنها مستجابة كما نص في الحديث" انتهى من "إكمال المعلم" (8/228).
ومن أخطر الأسباب أيضا: ضعف الصبر، فكثير ممن اهتدى يبالغ في العبادة والطاعة، ثم يدركه الملل كما هو طبع النفس البشرية، فيثبت الناس في هذه الحال بحسب صبرهم.
ومن أهم ما يقوي صبر العبد وثباته على الطاعة:
الأمر الأول: الإلحاح في الدعاء بخشوع وخضوع وعزيمة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى:
" قد أمرنا الله تعالى أن نقول في صلاتنا: (اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ) وهذا أفضل الأدعية وأوجبها على العباد.
ومن تحقق بهذا الدعاء جعله الله من أهل الهدى والرشاد؛ فإنه سميع الدعاء لا يخلف الميعاد " انتهى من "مجموع الفتاوى" (8/515).
ومن الأدعية ما ورد عَنْ عَلِيٍّ، قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلِ: اللهُمَّ! اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي، وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ، وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ رواه مسلم (2725).
قال القرطبيّ رحمه الله تعالى:
" هذا الأمر منه صلى الله عليه وسلم يدلّ على أن الذي ينبغي له أن يهتمّ بدعائه، فيستحضر معاني دعواته فِي قلبه " انتهى. "المفهم" (7/ 53 – 54).
الأمر الثاني:
أن يحافظ العبد على صحبة نشطة في الطاعة والتناصح على الخير، وتأمل في هذا سورة العصر، حيث قال الله تعالى:
وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ العصر/1–3.
الأمر الثالث:
إكثار العبد من ارتياد الأماكن التي ترقق القلب وتذهب عنه طول الأمل، كمجالس العلم، وعيادة المرضى، وزيارة المقابر، ومجانبة المجالس التي تورث الغفلة والتقليل من المباح منه؛ كمجالس اللهو والضحك.
الأمر الرابع:
حسن سياسة النفس في الطاعة، فلا يهملها ولا يملّها، وأحسن الهدي هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
عَنْ عَائِشَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَحْتَجِرُ حَصِيرًا بِاللَّيْلِ فَيُصَلِّي عَلَيْهِ، وَيَبْسُطُهُ بِالنَّهَارِ فَيَجْلِسُ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَثُوبُونَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُصَلُّونَ بِصَلاَتِهِ حَتَّى كَثُرُوا، فَأَقْبَلَ فَقَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، خُذُوا مِنَ الأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ، فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا، وَإِنَّ أَحَبَّ الأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ مَا دَامَ وَإِنْ قَلَّ رواه البخاري (5861)، ومسلم (782).
فيتدرج العبد مع نفسه في نوافل الطاعات، فيبدأ بالقليل حتى تعتاد نفسه، ولا يتركه مهما كان مزاج نفسه، ثم بعد الاعتياد يضيف ويزيد من النوافل مع مرور الوقت، والعبرة بالخواتيم.
نسأل الله الكريم أن يمن علينا وعليكم بالهدى والسداد والثبات عليهما.
ثانيا:
روى الترمذي (3253)، وابن ماجه (48) عَنْ أَبِي أُمَامَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَا ضَلَّ قَوْمٌ بَعْدَ هُدًى كَانُوا عَلَيْهِ إِلَّا أُوتُوا الْجَدَلَ. ثُمَّ تَلَا رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم هَذِهِ الْآيَةَ: ( مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ) .
وقال الترمذي:
" هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ ".
وهذا الحديث يبيّن أن الجدال سبب للضلال عن الحق، وهو محمول بالاتفاق على الجدال بالباطل وبغير حق، وبنية فاسدة لقصد العلو والانتصار للنفس.
فالجدال بالباطل سبب للضلال، كما أنه عقوبة على الضلال بحيث يبقى به الضال على ضلاله.
قال الطيبي رحمه الله تعالى:
" يعني من ترك سبيل الهدى، وركب متن الضلال عارفا بذلك: لابد أن يسلك طريق العناد واللجاج، ولا يتمشى له ذلك إلا بالجدل " انتهى من "شرح المشكاة" (2/647).
وقال الملا على القاري رحمه الله تعالى:
" والمعنى ما كان ضلالتهم ووقوعهم في الكفر إلا بسبب الجدال وهو الخصومة بالباطل مع نبيهم، وطلب المعجزة منه عنادا أو جحودا... ( ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية … ) أي: استشهادا على ما قرره... ( إِلَّا جَدَلًا )، أي: إلا لمخاصمتك وإيذائك بالباطل لا لطلب الحق... " انتهى من "مرقاة المفاتيح" (1/426).
وأما الجدال بالحق، وعلى بصيرة وعلم، وبقصد نصرة الحق، وبالحسنى، فهو محمود غير مذموم، كما في قوله تعالى:
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ النحل/125.
والجدال بالحق قد فعله السلف الصالح من صحابة وتابعين وأئمة.
قال الخطيب البغدادي رحمه الله تعالى:
" وقد تَحَاجَّ المهاجرون والأنصار، وحَاجَّ عبد الله بن عباس الخوارج بأمر علي بن أبي طالب، وما أنكر أحد من الصحابة قط الجدال في طلب الحق.
وأما التابعون ومن بعدهم فتوسعوا في ذلك فثبت أن الجدال المحمود هو طلب الحق ونصره، وإظهار الباطل وبيان فساده " انتهى من "الفقيه والمتفقه" (1/261).
وإذا عرف الإنسان عيب نفسه سهل عليه العلاج إن شاء الله تعالى ، فما دمت تعلم أنك تكثر الكلام والجدال فليكن العلاج بقطع لك ، وعدم مجالسة ومناقشة من يجرك إلى شيء من ذلك .
بل من عرف من نفسه غلبة الجدال، كان المشروع له أن يدع الجدال كله، ولو بالحق، حتى تستقيم نفسه على الهدى والسداد، ويقوى فيها جانب العمل، ويعتدل مزاجها على أبواب الخير كله. فعَنْ أَبِي أُمَامَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَا زَعِيمٌ بِبَيْتٍ فِي رَبَضِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْمِرَاءَ وَإِنْ كَانَ مُحِقًّا، وَبِبَيْتٍ فِي وَسَطِ الْجَنَّةِ لِمَنْ تَرَكَ الْكَذِبَ وَإِنْ كَانَ مَازِحًا وَبِبَيْتٍ فِي أَعْلَى الْجَنَّةِ لِمَنْ حَسَّنَ خُلُقَهُ رواه أبو داود (4800) وحسنه الألباني.
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |