عنوان الفتوى : مسائل في القرآن الكريم وجمعه، والمقصود بالمصحف
بما أن القرآن لم يجمع في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، فما هو المقصود بالأحاديث الآتية: عن ابن عمر ـ رضي الله عنه ـ عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لَا تُسَافِرُوا بِالْقُرْآنِ ـ وفي رواية أخرى: بالمصاحف، فَإِنِّي لَا آمَنُ أَنْ يَنَالَهُ الْعَدُوُّ ـ صحيح مسلم؟ وما المقصود به إذا كان لم يجمع بعد، وحديث آخر: عن عثمان بن أبي العاص رضي الله عنه: فَدَخَلْتُ عَلَى رَسُوْلِ الله فَسَأَلتُهُ مُصْحَفَاً كَانَ عِنْدَهُ، فَأَعْطَانِيْه ـ رواه الطبراني، فما المقصود بهذا المصحف الذي أعطاه الرسول صلى الله عليه وسلم لعثمان؟ وفي الآية: كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ـ فما هو الكتاب المقصود في الآية إذا كان القرآن آنذاك متفرقاً في صحف شتى؟.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن القرآن الكريم كان مكتوبا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكنه كان متفرقا، ولم يكن مجموعا في موضع أو مصحف واحد، ففي صحيح البخاري عن الزهري، قال: أخبرني ابن السباق، أن زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه - وكان ممن يكتب الوحي - قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني، فقال: إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن، فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه، وإني لأرى أن تجمع القرآن، قال أبو بكر: قلت لعمر: كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو والله خير، فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح الله لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر، قال زيد بن ثابت: وعمر عنده جالس لا يتكلم، فقال أبو بكر: إنك رجل شاب عاقل، ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتتبع القرآن فاجمعه، فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم؟ فقال أبو بكر: هو والله خير، فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح الله له صدر أبي بكر وعمر، فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف، والعسب وصدور الرجال حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع أحد غيره: لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم {التوبة: 128} إلى آخرهما، وكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثم عند عمر حتى توفاه الله، ثم عند حفصة بنت عمر.
قال الخطابي في أعلام الحديث: وإنما جمع أبو بكر القرآن في الصحف والقراطيس وحوله إلى ما بين الدفتين شهرا له وإذاعة في زمانه وتخليدا لرسمه مستأنف الزمان، وكان قبل في الأكتاف ورقاع الأدم والعسب وصفايح الحجارة ونحوها مما كانت تكتب العرب فيه من الظروف، ويشبه أن تكون العلة في ترك النبي صلى الله عليه وسلم جمع القرآن في مصحف واحد، كما فعله من بعده من الصحابة أن النسخ كان قد يرد على المنزل منه فيرفع الشيء بعد الشيء من تلاوته، كما يرفع من بعض أحكامه. اهـ.
وجاء في البرهان في علوم القرآن للزركشي: قال الإمام أبو عبد الله الحارث بن أسد المحاسبي في كتاب فهم السنن: كتابة القرآن ليست محدثة، فإنه صلى الله عليه وسلم كان يأمر بكتابته، ولكنه كان مفرقا في الرقاع والأكتاف والعسب، وإنما أمر الصديق بنسخها من مكان إلى مكان وكان ذلك بمنزلة أوراق وجدت في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها القرآن منتشر فجمعها جامع وربطها بخيط حتى لا يضيع منها شيء، فإن قيل: كيف وقعت الثقة بأصحاب الرقاع وصدور الرجال؟ قيل: لأنهم كانوا يبدون عن تأليف معجز ونظم معروف وقد شاهدوا تلاوته من النبي صلى الله عليه وسلم عشرين سنة، فكان تزويد ما ليس منه مأمونا، وإنما كان الخوف من ذهاب شيء من صحيحه، فإن قيل: كيف لم يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك؟ قيل: لأن الله تعالى كان قد أمنه من النسيان بقوله: سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله - أن يرفع حكمه بالنسخ، فحين وقع الخوف من نسيان الخلق حدث ما لم يكن، فأحدث بضبطه ما لم يحتج إليه قبل ذلك.. ولهذا المعنى لم يجمعوا السنن في كتاب، إذ لم يمكن ضبطها كما ضبط القرآن، قال؟: ومن الدليل على ذلك أن تلك المصاحف التي كتب منها القرآن كانت عنده الصديق لتكون إماما، ولم تفارق الصديق في حياته ولا عمر أيامه، ثم كانت عند حفصة لا تمكن منها، ولما احتيج إلى جمع الناس على قراءة واحدة وقع الاختيار عليها في أيام عثمان فأخذ ذلك الإمام ونسخ في المصاحف التي بعث بها إلى الكوفة، وكان الناس متروكين على قراءة ما يحفظون من قراءتهم المختلفة حتى خيف الفساد فجمعوا على القراءة التي نحن عليها. اهـ.
قال ابن حجر في فتح الباري: وقد كان القرآن كله كتب في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لكن غير مجموع في موضع واحد ولا مرتب السور ... وقد أعلم الله تعالى في القرآن بأنه مجموع في الصحف في قوله: يتلو صحفا مطهرة ـ الآية وكان القرآن مكتوبا في الصحف، لكن كانت مفرقة فجمعها أبو بكر في مكان واحد، ثم كانت بعده محفوظة إلى أن أمر عثمان بالنسخ منها فنسخ منها عدة مصاحف وأرسل بها إلى الأمصار. اهـ.
إذا تبين هذا: فما جاء في الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو.
ولفظ أحمد في المسند: عن ابن عمر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى أن يسافر بالمصحف إلى أرض العدو.
فالمراد به الصحف المتفرقة التي كتب فيها القرآن الكريم، وليس فيه دلالة على أن القرآن الكريم كان مجموعا في مصحف واحد على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقيل: هو إخبار بما سيكون من جمع القرآن الكريم في مصحف واحد.
جاء في لمعات التنقيح في شرح مشكاة المصابيح لعبد الحق الدِّهْلوي: والمراد بالقرآن: المصحف، وكان يكتبه بعض الصحابة لنفسه للحفظ أو التلاوة، وإن لم يكن مجموعًا كله في مصحف واحد، أو كان هذا إخبارًا بالغيب. اهـ.
وأما الحديث الذي أخرجه ابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني، والطبراني في المعجم الكبير عن عثمان بن أبي العاص، يقول: وفدت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أناس من ثقيف فقالوا لي: احفظ لنا متاعنا وركابنا. فقلت: على أنكم إذا فرغتم انتظرتموني حتى أدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فدخلوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه حوائجهم ثم خرجوا، فدخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته مصحفا كان عنده فأعطانيه.
فكذلك يحمل على أن المراد بالمصحف: صحف كتب فيها بعض القرآن الكريم، وليس مصحفا جامعا للقرآن الكريم كله.
ومعنى المصحف في اللغة هو ما تجمع فيه الصحف، جاء في تهذيب اللغة: قالَ اللَّيْث: الصُّحُفُ: جماعةُ الصَّحِيفة ... قالَ: وإنَّما سُمِّي المُصْحَفُ مُصْحَفًا لِأنَّهُ أُصْحِفَ أي جعل جامعا للصُّحُف المَكْتُوبَة بَين الدَّفَّتَيْن، وقالَ الفرّاء: يُقال: مُصحفٌ ومِصْحَف، كَما يُقال: مُطرَفٌ ومِطرَفٌ قالَ: وقَوله: مُصحف من أُصْحِفَ أي جُمِعت فِيهِ الصُّحُف، قالَ: وأُطرِف: جُعل فِي طرَفيْه العَلَمان .اهـ.
فيصح إطلاق وصف المصحف على ما يجمع بعض الصحف التي كتب فيها القرآن العظيم، وليس وصف المصحف مقصورا على ما يجمع القرآن الكريم كله، على أن هذا الحديث ليس مشهورا، فهو غير مروي في الصحاح، ولا في دواوين الإسلام المعروفة، فلا يمكن أن يعارض به ما ثبت في الصحيح من أن أبا بكر ـ رضي الله عنه ـ أول من جمع القرآن العظيم في موضع واحد.
وأما تسمية القرآن الكريم كتابا: فليس فيها أي دلالة على أن القرآن الكريم كان مجموعا كله في مصحف واحد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وأصل معنى الكتابة في اللغة هو الجمع، وقد ذكر العلماء عدة أوجه لمناسبة تسمية القرآن الكريم كتابا، منها: جمعه للقصص والمواعظ والأحكام، وجمعه لمقاصد الكتب السابقة، وإشارة إلى الاعتناء بكتابته، وإشارة كذلك إلى أن القرآن الكريم سيكتب في المصاحف.
جاء في بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز للفيروز آبادي: يعني القرآن سمّي كتابًا لما جُمع فيه من القصص والأمر والنَّهي والأمثال والشرائع والمواعظ، أو لأنه جُمع فيه مقاصد الكتب المنزلة على سائر الأنبياء. وكلُّ شيء جمعت بعضه إلى بعض فقد كتبته. اهـ.
وفي التحرير والتنوير لابن عاشور: وأما الكتاب فأصله اسم جنس مطلق ومعهود، وباعتبار عهده أطلق على القرآن كثيرا، قال تعالى: ذلك الكتاب لا ريب فيه {البقرة: 2} وقال: الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب {الكهف: 1} وإنما سمي كتابا لأن الله جعله جامعا للشريعة فأشبه التوراة، لأنها كانت مكتوبة في زمن الرسول المرسل بها، وأشبه الإنجيل الذي لم يكتب في زمن الرسول الذي أرسل به، ولكنه كتبه بعض أصحابه وأصحابهم، وأن الله أمر رسوله أن يكتب كل ما أنزل عليه منه ليكون حجة على الذين يدخلون في الإسلام ولم يتلقوه بحفظ قلوبهم، وفي هذه التسمية معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم بأن ما أوحي إليه سيكتب في المصاحف، قال تعالى: وهذا كتاب أنزلناه مبارك مصدق الذي بين يديه ولتنذر أم القرى ومن حولها {الأنعام: 92} وقال: وهذا ذكر مبارك أنزلناه أفأنتم له منكرون {الأنبياء: 50} وغير ذلك، ولذلك اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم من أصحابه كتابا يكتبون ما أنزل إليه ومن أول ما ابتدئ نزوله، ومن أولهم عبد الله بن سعد بن أبي سرح، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وزيد بن ثابت، ومعاوية بن أبي سفيان، وقد وجد جميع ما حفظه المسلمون في قلوبهم على قدر ما وجدوه مكتوبا يوم أمر أبو بكر بكتابة المصحف. اهـ.
والله أعلم.