عنوان الفتوى : لم يجمع القرآن في مصحف واحد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم
هل أمر الرسول عليه الصلاة والسلام بجمع القرآن؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فلم نطلع على ما يثبت أن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بجمع القرآن في مصحف واحد، وإنما كان الصحابة يكتبون ما تعلموه حسب ما تيسر لهم من وسائل التدوين، وظاهر كلام أبي بكر لعمر : كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لم يحصل جمع القرآن في مصحف واحد في حياة النبي صلى الله عليه وسلم .
قال القرطبي في تفسيره : باب ذكر جمع القرآن، وسبب كتب عثمان المصاحف وإحراقه ما سواها ، وذكر من حفظ القرآن من الصحابة رضي الله عنهم في زمن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان القرآن في مدة النبي - صلى الله عليه وسلم - متفرقا في صدور الرجال وقد كتب الناس منه في صحف وفي جريد وفي لخاف وظرر وفي خزف وغير ذلك - قال الأصمعي : اللخاف : حجارة بيض رقاق ، واحدتها لخفة . والظرر : حجر له حد كحد السكين ، والجمع ظرار ; مثل رطب ورطاب ، وربع ورباع ، وظران أيضا مثل صرد وصردان - فلما استحر القتل بالقراء يوم اليمامة في زمن الصديق رضي الله عنه ، وقتل منهم في ذلك اليوم فيما قيل سبعمائة ، أشار عمر بن الخطاب على أبي بكر الصديق رضي الله عنهما بجمع القرآن مخافة أن يموت أشياخ القراء ، كأبي وابن مسعود وزيد ; فندبا زيد بن ثابت إلى ذلك ، فجمعه غير مرتب السور ، بعد تعب شديد ، رضي الله عنه .
روى البخاري عن زيد بن ثابت قال : أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة وعنده عمر ، فقال أبو بكر : إن عمر أتاني فقال إن القتل قد استحر يوم اليمامة بالناس ، وإني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن ، فيذهب كثير من القرآن إلا أن تجمعوه ، وإني لأرى أن تجمع القرآن ; قال أبو بكر : فقلت لعمر كيف أفعل شيئا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال : هو والله خير ; فلم يزل يراجعني حتى شرح الله لذلك صدري ، ورأيت الذي رأى عمر . قال زيد : وعنده عمر جالس لا يتكلم ، فقال لي أبو بكر : إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك ، كنت تكتب الوحي لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فتتبع القرآن فاجمعه ، فوالله لو كلفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن ; قلت : كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ فقال أبو بكر : هو والله خير ; فلم أزل أراجعه حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر وعمر ; فقمت فتتبعت القرآن أجمعه من الرقاع والأكتاف والعسب وصدور الرجال ، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة الأنصاري لم أجدهما مع غيره : لقد جاءكم رسول من أنفسكم [ التوبة : 128 ] إلى آخرها . فكانت الصحف التي جمع فيها القرآن عند أبي بكر حتى توفاه الله ثم عند عمر حتى توفاه الله ثم عند حفصة بنت عمر .... اهـ
وقد ذكر أهل العلم في علة عدم جمعه في مجلد في حياته عليه الصلاة والسلام أنه كان لخوف نسخ شيء منه بوحي قرآن بدله، ففي الإتقان للسيوطي : قال الخطابي إنما لم يجمع صلى الله عليه وسلم القرآن في مصحف لما كان يترقبه من ورود ناسخ لبعض أحكامه أو تلاوته فلما انقضى نزوله بوفاته ألهم الله الخلفاء الراشدين ذلك وفاء بوعده الصادق بضمان حفظه على هذه الأمة اهـ
وقال الشيخ محمد العاقب الشنقيطي رحمه الله :
لم يجمع القرآن في مجلد * على الصحيح في حياة أحمد
للأمن فيه من خلاف ينشأ * وخيفة النسخ بوحي يطرأ
وكان يكتب على الأكتاف * وقطع الادم واللخاف
وبعد إغماض النبي فالأحق * أن أبا بكر بجمعه سبق
جمعه غير مرتب السور * بعد إشارة إليه من عمر
ثم تولى الجمع ذو النورين * فضمه ما بين دفتين
مرتب السور والآيات * مخرجا بأفصح اللغات
والله أعلم.