عنوان الفتوى : ما حكم دفع الزكاة في سداد دين الوالد الذي عليه للوالدة دون علمه؟
أبي كريم جدًا، ولكنه ليس حكيمًا بالتصرف بالمال، ويضع نفسه في مواقف حرجة، وفي ديون؛ لأنه يحب أن يكرم أصدقاءه ببذخ، وبشتى الطرق، ويحب مساعدة الناس، ولا يرفض طلبًا لمحتاج، حتى لو لم يكن يقدر، أو يملك المال لذلك، وهذا حالنا على مر السنين، كان يأخذ من مال أمي خلال ال30 عاما الماضية برضاها حينًا، ودون رضاها أحيانًا أكثر، مع وعده إياها بإعادة المال، علما بأن المال الذي كان يأخده منها هو مصروفها الذي كان يعطيها إياه، فهي ليس لديها مصدر دخل، عندما حسب أبي دينه لأمي فوجده مبلغًا كبيرًا جدًا؛ وعدها بإرجاعه، ولكني بصراحة أعلم في قرارة نفسي أنه لن يعيده؛ لأنه يكرر هذا الوعد منذ كنت صغيرة، ولم يسدد قط أي مبلغ الا نادرا، و كان سرعان ما يأخده منها من جديد، ليكرر نفس الدوامة، ولقد اقترض مني مالا كثيرا، ووعدني بإرجاعه، لكني سامحته في المال حبا لأبي، ورفقًا بحاله، ولن اطالبه به، أما أمي فهي لا تسامحه، بل لا تريد الحديث معه؛ لأنها لم تعد تملك مالا، فهو لا يصرف عليها، بل أنا أعطيها من راتبي لتصرف على نفسها وعلى البيت، حاولت كثيرا الإصلاح، ولكن أمي لا تريد أن تسامحه في مالها الذي هو حقها، وأخذه دون رضاها، كما إنها تشعر بحزن، وتوتر لضيق الأوضاع المادية. لدي مبلغ زكاة كبير حال عليه الحول، وهل يجوز أن أعطي من هذه الزكاة لقضاء دين أبي لعل أمي تسامحه، فأنا أخاف على أبي من الدين، وهو غير مدرك لخطر هذا الأمر؟ وإن أخذت أمي المال، هل يجوز أن تستعمل المال كما تريد، مثلا صدقة؛ أو استثمار، أو مشروع، أو غيرها كما تشاء في الحلال دون تدخل من أبي؟
الحمد لله.
أولا:
ما أعطاه والدك لوالدتك هبة، أو مصروفا شخصيا لها -لا مصروف البيت-، يصبح ملكا لها بالقبض، فإذا عاد فاقترضه منها كان دينا يلزمه سداده إلا أن تعفو عنه.
وأما مصروف البيت، فهي وكيلة عنه في التصرف، مؤتمنة على المال، فما زاد منه، فهو باق على ملك الوالد، ولا يحل لها أن تأخذ منه شيئا دون إذنه؛ لقول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ) الأنفال/27
وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيب نفس منه). رواه أحمد (20172) وصححه الألباني في "إرواء الغليل" (1459).
وينبغي أن يحذر الإنسان من الدين، وألا يأخذه إلا مع العزم على سداده، لما روى البخاري (2387) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا أَدَّى اللَّهُ عَنْهُ، وَمَنْ أَخَذَ يُرِيدُ إِتْلاَفَهَا أَتْلَفَهُ اللَّهُ).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: "قوله: "أتلفه الله" ظاهره أن الإتلاف يقع له في الدنيا، وذلك في معاشه أو في نفسه، وهو علم من أعلام النبوة، لما نراه بالمشاهدة ممن يتعاطى شيئا من الأخرين، وقيل: المراد بالإتلاف عذاب الآخرة. قال ابن بطال: فيه الحض على ترك استئكال أموال الناس، والترغيب في حسن التأدية إليهم عند المداينة، وأن الجزاء قد يكون من جنس العمل" انتهى من "فتح الباري" (5/ 54).
وروى مسلم في صحيحه (1885) عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَامَ فِيهِمْ فَذَكَرَ لَهُمْ أَنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَالْإِيمَانَ بِاللهِ أَفْضَلُ الْأَعْمَالِ، فَقَامَ رَجُلٌ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ، تُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَعَمْ، إِنْ قُتِلْتَ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ)، ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (كَيْفَ قُلْتَ؟) قَالَ: أَرَأَيْتَ إِنْ قُتِلْتُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَتُكَفَّرُ عَنِّي خَطَايَايَ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (نَعَمْ، وَأَنْتَ صَابِرٌ مُحْتَسِبٌ، مُقْبِلٌ غَيْرُ مُدْبِرٍ، إِلَّا الدَّيْنَ، فَإِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِي ذَلِكَ).
قال ابن الجوزي رحمه الله: "وَهَذَا الحَدِيث يتَضَمَّن التحذير من الدّين، لِأَن حُقُوق المخلوقين صعبة شَدِيدَة الْأَمر تمنع دُخُول الْجنَّة حَتَّى تُؤَدّى، وَقد كَانَ عَلَيْهِ السَّلَام يمْتَنع فِي أول الْإِسْلَام من الصَّلَاة على ذِي الدّين، كل ذَلِك للتحذير من حُقُوق المخلوقين، فَكيف بالظلم؟ ...
وَالْأولَى الحذر من الدّين، والأغلب أَنه لَا يكَاد يُؤْخَذ إِلَّا بِفُضُول الْعَيْش .. " انتهى من "كشف المشكل من حديث الصحيحين" (2/150).
فينبغي أن تنصحي والدك أن يتجنب الدين ما استطاع إلى ذلك سبيلا.
ثانيا:
إذا كان والدك لا يملك ما يسدد به دين والدتك، فهو غارم، ولا حرج في سداد الدين عنه من زكاتك.
وإعطاء الزكاة لأحد الوالدين لسداد دينه، مستثنى من المنع من إعطاء الزكاة للأصول والفروع.
جاء في "الموسوعة الفقهية" (23/177): "وقيد المالكية والشافعية وابن تيمية من الحنابلة الإعطاء الممنوع بسهم الفقراء والمساكين.
أما لو أعطى والده أو ولده من سهم العاملين أو المكاتبين أو الغارمين أو الغزاة، فلا بأس.
وقالوا أيضاً: إن كان لا يلزمه نفقته جاز إعطاؤه" انتهى.
ثالثا:
يجوز سداد الدين عن الغارم دون إذنه وعلمه.
قال المرداوي رحمه الله تعالى: " لو دفع المالك إلى الغريم، بلا إذن الفقير، فالصحيح من المذهب: أنه يصح ... قال في "الرعايتين"، و "الحاويين": جاز على الأصح، وكلام الشيخ تقي الدين بن تيمية يقتضيه " انتهى من "الإنصاف" (7/ 246).
وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى: " وهل يجوز أن نذهب إلى الدائن، ونعطيه ماله دون علم المدين؟
الجواب: نعم يجوز؛ لأن هذا داخل في قوله تعالى: (وَفِي الرِّقَابِ) فهو مجرور بـ "في" و (وَالْغَارِمِين) عطفا على الرقاب، والمعطوف على ما جُر بحرف، يُقدر له ذلك الحرف، فالتقدير: "وفي الغارمين"، و "في" لا تدل على التمليك، فيجوز أن ندفعها لمن يطلبه.
فإن قال قائل: هل الأولى أن نسلمها للغارم، ونعطيه إياها ليدفعها إلى الغريم، أو ندفعها للغريم؟
فالجواب في هذا تفصيل:
إذا كان الغارم ثقة حريصا على وفاء دينه، فالأفضل بلا شك إعطاؤه إياها، ليتولى الدفع عن نفسه؛ حتى لا يخجل، ولا يذم أمام الناس.
وإذا كان يخشى أن يفسد هذه الدراهم فإننا لا نعطيه، بل نذهب إلى الغريم الذي يطلبه ونسدد دينه " انتهى من "الشرح الممتع" (6/ 234 - 235).
وعليه: فلا يلزمك إخبار والدك، ولو أخبرته أنك سددت الدين دون بيان أنه من الزكاة، كان حسنا، إلا إن خشيت أن يعود فيستدين المال منها، فلا تخبريه حينئذ، فمفسدة أن يبقى منشغلا بالدين - في ظنه -، أقل من مفسدة أن يستدين وهو عازم على عدم الوفاء.
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |