عنوان الفتوى : التوبة من الغيبة وكفارتها، وكيفية الإنكار على المغتاب
1- لي ناس وشعوب اغتبتهم، فاستغفرت لذلك، ولكن رأيت أنه ضروري أن يتم إخبارهم، فكيف ذلك؟ وأيضا من الصعب أن أخبر أشخاصا معينين أني اغتبتهم، وهذا يؤدي للعداوة، فكيف أفعل؟
2- أيضا رأيت أنه ضروري أن يتم ذكر من اغتبته بخير في المجالس، فكيف أذكر له خيرا، وهو ليس معه خير يُذكر. أي أن الناس كلها تكرهه، لكنه ليس مجاهرا بمعصية. فكيف أفعل؟
3- وهل ضروري أن يتم إخبار من قمت بغيبته، وذكره في المجالس بخير، والاستغفار له. هل عليَّ كل هذا؟ أريد بوضوح ما هي كفارة الغيبة؟
4- بعض الناس يقول لي لأنني لا أغتاب أحدا، فأنا ساكت تماما، لا أتكلم في الحوارات بين الأقارب، وينزعجون مني لنصحهم، وإخبارهم أنهم يغتابون. فماذا أفعل؟
5- يقولون إن الاثنين لو أحدهما اغتاب شخصا، فالشخص الآخر من الاثنين هو شريك المغتاب، ما لم ينهه عن الغيبة، وأنا لما أبي يغتاب أستحي أن أنهاه. فكيف أفعل؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن الذي نرجحه أن التوبة من الغيبة تحصل بالندم على ما فات، والإقلاع عن الغيبة، والعزم على عدم العودة إليها، مع الدعاء والاستغفار لمن اغتابه، ولا يشترط إعلامه، لما يفضي إليه ذلك من مفسدة إيغار صدره، واستجلاب عداوته، وإدخال الغَمِّ عليه.
جاء في مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى للرحيباني:
تجب التوبة فورا من القذف والغيبة وغيرهما، ولا يشترط لصحتها من ذلك إعلام مقذوف أو مغتاب ونحوهما. نقل مهنا: لا ينبغي أن يعلمه؛ لأن في إعلامه دخول غم عليه وزيادة إيذاء.
وقال القاضي والشيخ عبد القادر: يحرم على القاذف ونحوه إعلام مقذوف ومغتاب ونحوه... وقال الشيخ تقي الدين: واختار أصحابنا لا يعلمه، بل يدعو له في مقابلة مظلمته.
وقال: ومن هذا الباب قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: «أيما مسلم شتمته، أو سببته، فاجعل ذلك له صلاة، وزكاة، وقربة، تقربه بها إليك يوم القيامة». رواه الشيخان من حديث أبي هريرة بلفظ: «إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: اللهم إني أتخذ عندك عهدا لن تخلفنيه إنما أنا بشر، فأي المؤمنين آذيته، أو شتمته، أو جلدته، أو لعنته، فاجعلها له صلاة». الحديث .اهـ. وانظر في هذا الفتوى: 171183.
وأما ذكر محاسن الشخص المغتاب: فليس بواجب، وليس شرطا في صحة التوبة من الغيبة، وانظر في هذا الفتوى: 394669.
ولا يجوز للشخص الجلوس مع من يغتاب الناس دون إنكار، بل يجب عليه إسكات المتكلم بالغيبة -ولو بصرف الحديث عن الغيبة إلى حديث آخر-، وإن لم ينته المتكلم عن الغيبة، فتجب مفارقة المجلس، ولا يجوز البقاء فيه إلا لحاجة معتبرة، والحياء من الأب ليس عذرا في ترك الإنكار عليه، ولكن يتلطف في الانكار عليه غاية اللطف، وكذلك انزعاج الأقارب ليس مانعا من إنكار الغيبة عليهم، وزجرهم عنها.
قال النووي في كتابه الأذكار: اعلم أن الغيبة كما يحرم على المغتاب ذكرها، يحرم على السامع استماعها، وإقرارها، فيجب على من سمع إنسانًا يبتدئ بغيبة محرمة، أن ينهاه، إن لم يخف ضررًا ظاهرًا، فإن خافه، وجب عليه الإنكار بقلبه، ومفارقة ذلك المجلس، إن تمكن من مفارقته.
فإن قدر على الإنكار بلسانه، أو على قطع الغيبة بكلام آخر، لزمه ذلك، وإن لم يفعل عصى. فإن قال بلسانه: اسكت، وهو يشتهي بقلبه استمراره، فقال أبو حامد الغزالي: ذلك نفاق، لا يخرجه عن الإثم، ولا بدّ من كراهته بقلبه.
ومتى اضطر إلى المقام في ذلك المجلس الذي فيه الغيبة، وعجز عن الإنكار، أو أنكر فلم يقبل منه، ولم يمكنه المفارقة بطريق، حرم عليه الاستماع، والإصغاء للغيبة، بل طريقه أن يذكر الله تعالى بلسانه، وقلبه، أو بقلبه، أو يفكر في أمر آخر ليشتغل عن استماعها، ولا يضره بعد ذلك السماع، من غير استماع، وإصغاء، في هذه الحالة المذكورة.
فإن تمكن بعد ذلك من المفارقة، وهم مستمرون في الغيبة، ونحوها، وجب عليه المفارقة، قال الله تعالى: (وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) {الأنعام:68}.اهـ.
وقال ابن تيمية كما في مجموع الفتاوى: فالرجل لو يسمع الكفر والكذب والغيبة والغناء والشبابة من غير قصد منه؛ بل كان مجتازا بطريق فسمع ذلك لم يأثم بذلك باتفاق المسلمين.
ولو جلس واستمع إلى ذلك ولم ينكره لا بقلبه ولا بلسانه ولا يده: كان آثما باتفاق المسلمين كما قال تعالى: {وإذا رأيت الذين يخوضون في آياتنا فأعرض عنهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين وما على الذين يتقون من حسابهم من شيء ولكن ذكرى لعلهم يتقون}
وقال تعالى: {وقد نزل عليكم في الكتاب أن إذا سمعتم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تقعدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره إنكم إذا مثلهم} فجعل القاعد المستمع من غير إنكار بمنزلة الفاعل. ولهذا يقال: المستمع شريك المغتاب. وفي الأثر: من شهد المعصية وكرهها كان كمن غاب عنها، ومن غاب عنها ورضيها كان كمن شهدها.
فإذا شهدها لحاجة أو لإكراه أنكرها بقلبه؛ لقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: {من رأى منكم منكرا فليغيره بيده. فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان}.اهـ.
والله أعلم.