عنوان الفتوى : كيف الجمع بين الأحاديث الآمرة بغسل الجمعة، وبين حديث: ( من توضأ، فبها ونعمت )؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

هل الحديث: (حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ، كَاغْتِسَالِهِ مِنَ الْجَنَابَةِ، يَغْسِلُ جَسَدَهُ وَرَأْسَهُ، يَجْعَلُ ذَلِكَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ)، يوجب غسل الجمعة؟ وماذا عما ورد في عدم وجوبه؟ كحديث: (من توضأ، فبها ونعمت، ومن تغسل فالغسل أفضل)، كيف الجمع بينهما؟

مدة قراءة الإجابة : 11 دقائق

الحمد لله.

أولا:

الحديث الأول: رواه البخاري (897)، ومسلم (849): عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ يَغْتَسِلَ فِي كُلِّ سَبْعَةِ أَيَّامٍ يَوْمًا، يَغْسِلُ فِيهِ رَأْسَهُ وَجَسَدَهُ ).

وفي رواية للبخاري (898): ( لِلهِ تَعَالَى عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ حَقٌّ ).

وعند مسلم ( حَقٌّ لِلهِ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ ).

والحديث الثاني:

رواه النسائي (1380)، وأبو داود (354)، والترمذي (497)، وغيرهم: عَنْ ‌سَمُرَةَ بْنِ جُنْدُبٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ‌فَبِهَا ‌وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ).

والحديث الثاني: لا تخلو طرقه من مقال وضعف.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

" ولهذا الحديث طرق، أشهرها وأقواها رواية الحسن عن سمرة، أخرجها أصحاب السنن الثلاثة وابن خزيمة وابن حبان، وله علتان:

إحداهما: أنه من عنعنة الحسن.

والأخرى: أنه اختلف عليه فيه، وأخرجه ابن ماجه من حديث أنس، والطبراني من حديث عبد الرحمن بن سمرة، والبزار من حديث أبي سعيد، وابن عدي من حديث جابر، وكلها ضعيفة " انتهى من "فتح الباري" (2/362).

وقد ذهب جمع من أهل العلم إلى تحسينه بطرقه وشواهده, وقد سبق بيان هذا في جواب السؤال رقم: (171989).

ثانيا:

من رأى من أهل العلم ضعف حديث سمرة، ورأى أن معنى حديث أبي هريرة: (حَقٌّ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ)، هو اللزوم والوجوب، ذهب إلى القول بوجوب غسل الجمعة.

ثم إنه يؤيد تعيينه ليوم الجمعة ، من دون أيام الأسبوع، بالحديث الآخر: ( غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ ) الوارد في حديث ‌أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ( غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ ) رواه البخاري (879)، ومسلم (846).

وبالأمر به الوارد في حديث ‌عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ، أَنَّهُ قَالَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( مَنْ جَاءَ ‌مِنْكُمُ ‌الْجُمُعَةَ فَلْيَغْتَسِلْ ) رواه البخاري (894)، ومسلم (844).

قال ابن دقيق العيد رحمه الله تعالى:

" الحديث صريح في الأمر بالغسل للجمعة. وظاهر الأمر: الوجوب. وقد جاء مصرحا به بلفظ الوجوب في حديث آخر.

فقال بعض الناس بالوجوب، بناء على الظاهر.

وخالف الأكثرون، فقالوا بالاستحباب. وهم محتاجون إلى الاعتذار عن مخالفة هذا الظاهر. فأولوا صيغة الأمر على الندب، وصيغة الوجوب على التأكيد، كما يقال: حقك واجب علي. وهذا التأويل الثاني: أضعف من الأول. وإنما يصار إليه إذا كان المعارض راجحا في الدلالة على هذا الظاهر.

وأقوى ما عارضوا به حديث: ( مَنْ تَوَضَّأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ‌فَبِهَا ‌وَنِعْمَتْ، وَمَنِ اغْتَسَلَ فَالْغُسْلُ أَفْضَلُ ) ولا يقاوم سنده سند هذه الأحاديث، وإن كان المشهور من سنده صحيحا على مذهب بعض أصحاب الحديث " انتهى من "شرح عمدة الأحكام" (1/316).

وأما من حسّن الحديث، فيرى أن هذا الحديث وإن كان ليس له قوة حديث أبي هريرة المتفق عليه؛ إلا أنه لا يُرَّد الحديث غير الأقوى بالأقوى متى أمكن الجمع بينهما.

قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

" والمقرر في علم الأصول، وعلم الحديث أنه إذا أمكن الجمع بين الحديثين وجب الجمع بينهما إجماعا، ولا يرد غير الأقوى منهما بالأقوى؛ لأنهما صادقان، وليسا بمتعارضين، وإنما أجمع أهل العلم على وجوب الجمع بين الدليلين إن أمكن؛ لأن إعمال الدليلين معا أولى من إلغاء أحدهما، كما لا يخفى " انتهى من "أضواء البيان" (5 /161).

فرأوا أن حديث سمرة يدل على أن الغسل فيه فضل لكنه ليس بواجب، وهو أفضل من الاقتصار على الوضوء، وقووا معنى هذا الحديث بما رواه الإمام مسلم (857) عَنْ ‌أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَنْ تَوَضَّأَ فَأَحْسَنَ الْوُضُوءَ. ثُمَّ أَتَى الْجُمُعَةَ فَاسْتَمَعَ وَأَنْصَتَ. غُفِرَ لَهُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجُمُعَةِ. وَزِيَادَةُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ. وَمَنْ مَسَّ الْحَصَى فَقَدْ لَغَا).

ورأوا أن أحاديث الأمر بالغسل كحديث: ( غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُحْتَلِمٍ ): أن الوجوب هنا ليس بمعنى الواجب الذي في تركه الإثم، وإنما المراد به تأكيد استحباب الغسل، وأن المسلم لا ينبغي له تركه.

وأيدوا هذا الفهم بما رواه البخاري (878)، ومسلم (845): عَنِ ‌ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: " أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ بَيْنَمَا هُوَ قَائِمٌ فِي الْخُطْبَةِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ، إِذْ دَخَلَ رَجُلٌ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ الْأَوَّلِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَنَادَاهُ عُمَرُ: أَيَّةُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟ قَالَ: إِنِّي شُغِلْتُ، فَلَمْ أَنْقَلِبْ إِلَى أَهْلِي حَتَّى سَمِعْتُ التَّأْذِينَ، فَلَمْ أَزِدْ أَنْ تَوَضَّأْتُ، فَقَالَ: وَالْوُضُوءُ أَيْضًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَأْمُرُ بِالْغُسْلِ".

قال الإمام الشافعي رحمه الله تعالى:

" فكان قول رسول الله في: ( غُسْلُ يَوْمِ الْجُمُعَةِ وَاجِبٌ ) وأمره بالغسل، يحتمل معنيين:

الظاهر منهما: أنه واجب، فلا تجزئ الطهارة لصلاة الجمعة إلاّ بالغسل، كما لا يجزئ في طهارة الجنب غير ‌الغسل.

ويحتمل: واجب في الاختيار والأخلاق والنّظافة.

أخبرنا مالك، عن الزهري، عن سالم، قال: ( دَخَلَ رجل من أصحاب النبي يوم الجمعة وعمر بْنُ الخَطَّابِ يَخْطُبُ، فَقَالَ عُمَرُ أَيَّتُ سَاعَةٍ هَذِهِ؟! فَقَالَ: يَا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ، انْقَلَبْتُ مِنَ السُّوقِ، فَسَمِعْتُ النِّدَاءَ، فَمَا زِدْتُ عَلَى أَنْ توضأت، فقال عمر: الوضوء أيضا! وقد علمت أن رسول الله كان يأمر بالغسل؟! ).

أخبرنا الثقة، عن معمر، عن الزهري، عن سالم، عن أبيه: مثل معنى حديث مالك، وسمى الداخل يوم الجمعة بغير غسل: " عثمان بن عفان ".

فلما حفظ عمر عن رسول الله أنه كان يأمر بالغسل، وعلم أن عثمان قد علم من أمر رسول الله بالغسل ثم ذكر عمر لعثمان أمر النبي بالغسل، وعلم عثمان ذلك: فلو ذهب على مُتَوَهِّم أن عثمان نسي، فقد ذكّره عمر قبل الصلاة بنسيانه، فلما لم يترك عثمان الصلاة للغسل، ولما لم يأمره عمر بالخروج للغسل: دل ذلك على أنهما قد علما أن أمر رسول الله بالغسل على الاختيار لا على أن لا يجزئ غيره؛ لأن عمر لم يكن ليدع أمره بالغسل، ولا عثمان إذ علمنا أنه ذاكر لترك الغسل وأمر النبي بالغسل: إلا والغسل كما وصفنا على الاختيار " انتهى من "الرسالة" (ص 303 - 305).

وقال الترمذي رحمه الله تعالى:

" حديث سَمُرَةَ حديث حسن…

والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم، ومن بعدهم، اختاروا الغسل يوم الجمعة، ورأوا أن يُجْزئ الوضوء مِن الغسل يوم الجمعة.

قال الشّافعيّ: وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ أَمْرَ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ أَنَّهُ عَلَى الِاخْتِيَارِ لَا عَلَى الْوُجُوبِ-: حَدِيثُ عُمَرَ حَيْثُ قَالَ لِعُثْمَانَ: وَالْوُضُوءُ أَيْضًا، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِالْغُسْلِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ. فَلَوْ عَلِمَا أَنَّ أَمْرَهُ عَلَى الْوُجُوبِ لَا عَلَى الِاخْتِيَارِ لَمْ يَتْرُكْ عُمَرُ، عُثْمَانَ حَتَّى يَرُدَّهُ وَيَقُولَ لَهُ: ارْجِعْ فَاغْتَسِلْ، وَلَمَا خَفِيَ عَلَى عُثْمَانَ ذَلِكَ مَعَ عِلْمِهِ، وَلَكِنْ دَلَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ أَنَّ الْغُسْلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ فِيهِ فَضْلٌ مِنْ غَيْرِ وُجُوبٍ يَجِبُ عَلَى الْمَرْءِ فِي ذَلِكَ " انتهى.

وقال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى:

" وعلى هذا الجواب عوَّل أكثر المصنفين في هذه المسألة، كابن خزيمة، والطبري، والطحاوي، وابن حبان، وابن عبد البر وهلمَّ جرا، وزاد بعضهم فيه أن من حضر من الصحابة وافقوهما على ذلك " انتهى من "فتح الباري" (2/361).

واحتج ابن عبد البر لهذا الفهم بالإجماع، حيث قال رحمه الله تعالى:

" وقد أجمع المسلمون قديما وحديثا على أن ‌غسل ‌الجمعة ‌ليس ‌بفرض واجب، وفي ذلك ما يكفي ويغني عن الإكثار. ولا يجوز على الأمة بأسرها جهل معنى السنة ومعنى الكتاب، وهذا مفهوم عند ذوي الألباب " انتهى من "التمهيد" (6/506).

قال ابن رجب رحمه الله تعالى:

" فابن عبد البر لم يثبت في وجوب غسل الجمعة –بمعنى كونه فرضا يأثم بتركه – اختلافا بين العلماء المعتبرين، وإنما خص الخلاف في ذلك بأهل الظاهر.

والأكثرون: أطلقوا حكاية الخلاف في وجوب غسل الجمعة، وحكوا القول بوجوبه عن طائفة من السلف، كما حكاه ابن المنذر، عن أبي هريرة وعمار، وعن مالك –أيضا.

والذي ذكره ابن عبد البر هو التحقيق في ذلك –والله أعلم -، وأن من أطلق وجوبه إنما تبع في ذلك ما جاء عن النّبي - صلّى اللهُ عليه وسلّم - من إطلاق اسم ( الواجبٍ ) عليهِ، وقد صرح طائفة منهم بأن وجوبه لا يقتضي الإثم بتركه، كما حمل أكثر العلماء كلام النّبي - صلّى اللهُ عليه وسلّم - على مثل ذلك – أيضا " انتهى من "فتح الباري" (8 / 82 — 83).

والله أعلم.