عنوان الفتوى : حكم استعمال ( بلى ) تصديقا لقول القائل: لن يضيعنا الله.

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

قال أحدهم: لن يضيعنا الله، فقلت بلى، بقصد أن الله لن يضيعنا أي تأكيدا. ثم قرأت أن: •[بلى] لا تكون إلا جوابًا لاستفهام فيه نفي، كما في قوله تعالى: (ألست بربكم قالوا بلى)، وعندما يسأل الأستاذ بقوله: أليس كذلك؟ نقول: بلى. •[نعم] تكون جوبًا لاستفهام بلا نفي، كما في قوله تعالى: (فهل وجدتم ما وعد ربكم حقًا قالوا نعم). ‏قال ابن عبّاس: لو قالوا في جواب: (أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ): نعم؛ لكان كفرًا؛ لأن النفي يُجاب بـ(بلى) لا (نعم). فما حكم ما قلته؟ وهل هو صحيح لغويا؟

مدة قراءة الإجابة : 8 دقائق

الحمد لله.

المعروف في اللغة أن ( بلى ) تأتي بعد النفي لتبطله ، سواء كان نفيا مجردا، أم مع استفهام ، حقيقي أو تقريري.

قال ابن هشام، رحمه الله: " بلَى: حرف جَوَاب ... وتختص بِالنَّفْيِ، وتفيد إِبْطَاله:

سَوَاء كَانَ مُجَردا، نَحْو: زعم الَّذين كفرُوا أَن لن يبعثوا قل بلَى وربي.

أم مَقْرُونا بالاستفهام، حَقِيقِيًّا كَانَ؛ نَحْو: أَلَيْسَ زيد بقائم؟ فَتَقول: بلَى. أَو توبيخيا، نَحْو: أم يحسبون أَنا لَا نسْمع سرهم ونجواهم بلَى، أيحسب الْإِنْسَان ألن نجمع عِظَامه بلَى.

 أَو تقريريا نَحْو: ألم يأتكم نَذِير قَالُوا بلَى، أَلَسْت بربكم قَالُوا بلَى؛ أجروا النَّفْي مَعَ التَّقْرِير مجْرى النَّفْي الْمُجَرّد، فِي رده بـ: بلَى. وَلذَلِك قَالَ ابْن عَبَّاس وَغَيره: لَو قَالُوا نعم لكفروا. وَوَجهه: أَن نعم تَصْدِيق للمخبر بِنَفْي أَو إِيجَاب " انتهى، من "مغني اللبيب عن كتب الأعاريب" (153).

ومن ذلك ما ورد في قوله تعالى:

(وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا) الأعراف/172.

قال ابن جزي رحمه الله تعالى في تفسير هذه الآية:

" ( قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا ) قولهم بلى: إقرار منهم بأن الله ربهم، فإن تقديره: أنت ربنا، فإن بلى بعد التقرير تقتضي الإثبات، بخلاف نعم فإنها إذا وردت بعد الاستفهام تقتضي الإيجاب، وإذا وردت بعد التقرير تقتضي النفي، ولذلك قال ابن عباس في هذه الآية: لو قالوا: ‌نعم ‌لكفروا " انتهى من "التسهيل لعلوم التنزيل" (1/ 328).

وأما ( نعم ) فتأتي بعد الخبر لتصديقه.

مثل ما ورد في السؤال، فالإخبار بأن الله لن يضيع عباده ، يكون تصديقه بـ ( نعم ) ، وليس بـ ( بلى ) .

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:

" واعلم أنه إذا قيل: قام زيد، فتصديقه: نعم، وتكذيبه: لا، ويمتنع دخول ‌(بلى) لعدم النفي " انتهى من "مختصر مغني اللبيب" (ص121).

فالحاصل؛ أن تصديق القائل: لن يضيعنا الله. يكون بـ (نعم)، ولا يصح استعمال (بلى) في مثل هذا.

وما يروى عن ابن عباس رضي الله عنه: فهو محمول على أن هؤلاء العرب فصحاء يعلمون متى تستعمل (نعم)، ومتى تستعمل (بلى).

وأما الذي لا يميز، أو يسبق لسانه إلى أحدهما من غير قصد معنى باطل: فهو معفو عنه؛ لأن العبرة بالقصد والنية.

لقول رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِنَّمَا الأَعْمَالُ بِالنِّيَّاتِ ، وَإِنَّمَا لِكُلِّ امْرِئٍ مَا نَوَى ) رواه البخاري (1)، ومسلم (1907).

قال ابن القيم رحمه الله تعالى:

" اعتبار النيات والمقاصد في الألفاظ، وأنها لا تلزم بها أحكامها حتى يكون المتكلم بها قاصدا لها مريدا لموجباتها، كما أنه لا بد أن يكون قاصدا للتكلم باللفظ مريدا له، فلا بد من إرادتين:

إرادة التكلم باللفظ اختيارا.

وإرادة موجبه ومقتضاه، بل إرادة المعنى آكد من إرادة اللفظ، فإنه المقصود واللفظ وسيلة، هو قول أئمة الفتوى من علماء الإسلام... " انتهى من "أعلام الموقعين" (4/447).

فالخطأ في التعبير معفو عنه.

قال الله تعالى:

(لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) البقرة/286.

قال الشيخ محمد الامين الشنقيطي رحمه الله تعالى:

" قوله تعالى: ( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا )، لم يبين هنا هل أجاب دعاءهم هذا أو لا؟

وأشار إلى أنه أجابه بقوله في الخطأ: ( وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ) الآية، وأشار إلى أنه أجابه في النسيان بقوله: ( وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ )، فإنه ظاهر في أنه قبل الذكرى لا إثم عليه في ذلك...

وقد ثبت في صحيح مسلم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قرأ: ( رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا )، قال الله تعالى: نعم )" انتهى من "أضواء البيان" (1/312).

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:

" قال الفقهاء: لو قيل للرجل: ألست قد طلَّقْتَ امرَأَتَك؟ قال: نعم. لم تُطلَّق، وإن قال: بلى. طُلِّقت.

فقول ابن عباس: لو قالوا: نعم. لكفروا.

وهذا مسلّم فيما إذا كان الإنسان يعرف اللّغة العربية جيدا، وأمّا العامّيّ فعنده (نعم) و (بلى) سواء؛ ولهذا لو قيل للعامّي: ألست طلّقت امرأتك؟ قال: نعم. فعلى القول الصّحيح تطلّق، فالعبرة بالمعاني " انتهى من "تفسير سورة غافر" (ص 359).

بل قد ذهب بعض أهل العلم إلى جواز الجواب بـ (بلى) وإن لم يتقدمها نفي ، ووقع أيضا في بعض الأحاديث.

ومن ذلك ما جاء في حديث عمرو بن عبسة رضي الله عنه حين قال للنبي صلى الله عليه وسلم : (يَا رَسُول اللَّه أَتَعْرِفُنِي؟ قَالَ: (نَعَمْ)، أَنْتَ الَّذِي لَقِيتنِي بِمَكَّة، فَقُلْت : (بَلَى) رواه مسلم (1967).

قال النووي رحمه الله :

"فِيهِ صِحَّة الْجَوَاب (بِبَلَى) وَإِنْ لَمْ يَكُنْ قَبْلهَا نَفْي، وَصِحَّة الْإِقْرَار بِهَا، وَهُوَ الصَّحِيح فِي مَذْهَبنَا، وَشَرْط بَعْض أَصْحَابنَا أَنْ يَتَقَدَّمهَا نَفْي" انتهى.

لكن قال ابن هشام رحمه الله: إن هذا من القليل في اللغة، ولا يحمل عليه ما جاء في كتاب الله تعالى:

" وَقع فِي كتب الحَدِيث مَا يَقْتَضِي أَنَّهَا يُجَاب بهَا الِاسْتِفْهَام الْمُجَرّد.

فَفِي صَحِيح البُخَارِيّ فِي كتاب الْإِيمَان : أَنه عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام قَالَ لأَصْحَابه : أَتَرْضَوْنَ أَن تَكُونُوا ربع أهل الْجنَّة ؟ قَالُوا : بلَى .

وَفِي صَحِيح مُسلم فِي كتاب الْهِبَة : أَيَسُرُّك أَن يَكُونُوا لَك فِي الْبر سَوَاء ؟ قَالَ : بلَى . قَالَ : فَلَا، إِذَنْ .

وَفِيه أَيْضا : أَنه قَالَ أَنْت الَّذِي لقيتني بِمَكَّة ؟ فَقَالَ لَهُ الْمُجيب : بلَى .

وَلَيْسَ لهَؤُلَاء أَن يحتجوا بذلك ؛ لِأَنَّهُ قَلِيل ، فَلَا يتَخَرَّج عَلَيْهِ التَّنْزِيل " انتهى، من "مغني اللبيب" (154).

والله أعلم.

أسئلة متعلقة أخري
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي...