عنوان الفتوى : توبة الساحر
عمري واحد وأربعون سنة، متزوج، ولي ابنتان، وحالتي المادية جيدة، والحمد لله. لقد ترددت أكثر من عشرين سنة على طرح هذا السؤال على أهل العلم حتى قدره الله اليوم.
عندما كنت في الثامنة عشرة من عمري، كانت لي رفقة سيئة من بينهم ابن ساحر. ووجدت نفسي أقوم معهم بأعمال شيطانية، ثم بدأت أقوم بذلك منفردا، بعد أن اشتريت بعض كتب السحر.
والسحر كله حرام، رغم أن أعمالي لم تتجاوز استمالة الفتيات إليَّ، ومارست ذلك سنة كاملة، ثم تنبهت بفضل الله وحده إلى أن ما أقوم به يؤدي حتما إلى النار، ثم تبت، وندمت، وكنت أبكي كثيرا عندما أخلو، وأطلب من الله أن لا يعذبني.
وعانيت من جهة أخرى، فعندما تبت من عشرين سنة كنت أرى فيها أحلاما أكاد أموت من فزعها، رغم قراءتي للأذكار، ولم أتخلص منها إلا بحفظي لسورة البقرة، وتلاوتها كل يوم تقريبا.
اليوم بفضل الله أقوم الليل غالبا، وأصوم بعض أيام الشهر، وأتقرب إلى الله بالصدقات، وأبر والدي، ولا أزكي نفسي على الله.
فهل يغفر الله لي ما كان مني؟ ووالله لو كان الحد يقام في بلدي لقدمت نفسي لضربة بسيف خير من أن ألقى الله بإثمي.
وثانيا: أريد أن أنسى هذا الماضي لكني لا أستطيع؟ بارك الله فيكم، واعذروني على الإطالة.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فأنت على خير أخانا السائل، وأبشر بتوبة الله عليك، ولتعلم أنه لا يوجد ذنب ألبتة لا يقبل اللهُ توبةَ العبد منه فيما بينه وبين الله، وأقصى ما قيل في حكم الساحر أنه كافر، وقد قال تعالى في التوبة من الكفر: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ {الأنفال: 38}، وقال تعالى في حق النصارى الذين نسبوا له الولد، وسبوه سبة تكاد السموات والأرض يتفطرن منها، وتخر الجبال هدا، قال مخاطبا لهم: أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ {سورة المائدة:74}.
ولا يخفى عليك أن الله تعالى قبل توبة سحرة فرعون، وصاروا في آخر نهارهم من الشهداء، وأولياء للرحمن بعد أن كانوا في أول النهار كفرةً أولياء لفرعون والشيطان، ولم يقل أحد من العلماء قط بأن الساحر لا توبة له فيما بينه وبين الله، وإنما اختلفوا هل يستتاب قبل إقامة الحد عليه؟ أم يقتل ولا يستتاب؟ وهذا معنى خلافهم في قبول توبته في الدنيا، وأما توبته فيما بينه وبين الله؛ فلا خلاف في قبولها لو تاب.
قال ابن قدامة في المغني ت التركي» (١٢/ 303): وهل يُسْتَتابُ السَّاحرُ؟ فيه روَايتان؛ إحدَاهُما، لا يُسْتَتَابُ.... والرِّوَايَةُ الثانيةُ، يُسْتَتَابُ، فإن تابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُه؛ لأنَّه ليس بأعظمَ من الشِّرْكِ، والمُشْرِكُ يُسْتَتَابُ، ومَعْرِفَتُه السِّحِرَ لا تَمْنَعُ قبولَ تَوْبتِه، فإنَّ اللَّه تعالى قَبِلَ تَوْبَة سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ، وجعلَهم من أوْليائِه في ساعةٍ، ولأنَّ السَّاحِرَ لو كان كافِرًا فأسْلَمَ صَحَّ إسْلَامُه وتَوْبَتُه، فإذا صَحَّتِ التَّوْبَةُ منهما، صَحَّتْ من أحدِهما، كالكُفْرِ، ولأنَّ الكُفْرَ والقتلَ إنَّما هو بعمَلِه بالسِّحْرِ، لا بعِلْمِه، بدليلِ السَّاحِرِ إذا أسْلَم، والعملُ به يُمْكنُ التَّوْبَةُ منه، وكذلك اعتقادُ ما يَكْفُرُ باعْتقادهِ، يُمْكِنُ التَّوْبةُ منه، كالشِّرْكِ، وهاتان الرِّوايتان في ثُبوتِ حُكْمِ التَّوْبَةِ في الدُّنْيا، من سُقُوطِ القتلِ ونحوِه، فأمَّا فيما بينَه وبينَ اللَّه تعالى، وسُقوطِ عُقوبةِ الدارِ الآخِرَةِ عنه، فتَصِحُّ، فإنَّ اللَّه تعالى لم يَسُدَّ بابَ التَّوْبةِ عن أَحدٍ من خَلْقِه، ومن تابَ إلى اللهِ قَبِلَ تَوْبَتَه، لا نعلمُ في هذا خلافًا. اهــ.
فأبشر أخي السائل، وإياك أن يحملك خوفك على الدخول في ذنب آخر مهلك، وهو القنوط من رحمة الله تعالى، وانظر الفتوى: 250888. في الترهيب من اليأس من رحمة الله.
والله أعلم.