عنوان الفتوى : الترهيب من اليأس من رحمة الله والأمن من مكره
هل من يأمن مكر الله، أو يقنط من رحمته يكفر كفرا أكبر مخرجا عن الملة؟ وما الحكمة في ذلك ؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الأمن من مكر الله، والقنوط من رحمته من أكبر الكبائر. فقد جاء في حاشية الغرر البهية : كل من القنوط وأمن المكر كبيرة يجب الخروج منه ...اهـ
وقال ابن حجر المكي في الكبائر : الأمن من مكر الله بالاسترسال في المعاصي مع الاتكال على الرحمة قال تعالى : { فلا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون } وقال تعالى : { وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين } . وكذا اليأس من رحمته لما ورد فيه من الوعيد الشديد . كقوله تعالى : { إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون } , وقوله تعالى : { ومن يقنط من رحمة ربه إلا الضالون } . وروى ابن أبي حاتم والبزار عن ابن عباس { أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : ما الكبائر ؟ فقال : الشرك بالله , والإياس من روح الله , والأمن من مكر الله , وهذا أكبر الكبائر } قيل : والأشبه أن يكون الحديث موقوفا , وبكونه أكبر الكبائر صرح ابن مسعود كما رواه عبد الرزاق والطبراني .
ثم قال ابن حجر في بيان الحكمة من ذلك : وإنما كان اليأس من رحمة الله من الكبائر؛ لأنه يستلزم تكذيب النصوص القطعية . ثم هذا اليأس قد ينضم إليه حالة هي أشد منه , وهي التصميم على عدم وقوع الرحمة له , وهذا هو القنوط , بحسب ما دل عليه سياق الآية : { وإن مسه الشر فيئوس قنوط } وتارة ينضم إليه أنه مع اعتقاده عدم وقوع الرحمة له يرى أنه سيشدد عذابه كالكفار . وهذا هو المراد بسوء الظن بالله تعالى . اهـ
وقد عدهما بعض فقهاء الحنفية من أنواع الكفر فقد قال الخادمي في بريقة محمودية : ( واليأس من رحمة الله تعالى ) كفر ; لأنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ( والأمن من عذابه وسخطه ) أي غضبه ; لأنه لا يأمن من مكر الله إلا القوم الخاسرون . اهـ
وجاء في حاشية العطار على شرح جمع الجوامع في بيان الجمع بين كلام الحنفية وكلام الجمهور :
وفي عقائد الحنفية أن الإياس من روح الله تعالى كفر , وأن الأمن من مكر الله تعالى أكفر، فإن أرادوا الإياس لإنكار سعة الرحمة الذنوب، وبالأمن اعتقاد أن لا مكر، فكل منهما كفر وفاقا ; لأنه رد القرآن , وإن أرادوا أن من استعظم ذنوبه فاستبعد العفو عنها استبعادا يدخل في حد اليأس، أو غلب عليه من الرجاء ما دخل به في حد الأمن، فالأقرب أن كلا منهما كبيرة لا كفر بالاسترسال في المعاصي جرى على الغالب من أن الأمن من مكر الله يسترسل في المعاصي غالبا لعدم مبالاته , وإلا فمجرد الأمن من مكر الله كبيرة , ولو لم يكن عاصيا بغير الأمن. اهـ
هذا؛ ويتعين على المسلم الجمع بين الخوف من الله ورجاء رحمته ورضاه، فالخوف والرجاء واجبان يلزم العبد أن يتحلى بهما، فلا يأمن مكر الله، ولا يقنط من رحمته، وليجعل بين عينيه دائماً النصوص الواردة في الأمرين، كقوله تعالى: نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ* وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ {الحجر: 49-50}. وقوله تعالى: غَافِرِ الذَّنبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ {غافر: 3}.
وقوله تعالى: وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ {يوسف: 87}.
وقوله تعالى: أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ {الأعراف: 99}.
وقد امتدح الله آل زكريا هو وزوجه ويحيى بالجمع بين الرغبة والرهبة في عبادته فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ { الأنبياء:90}. قال الطبري : وقوله : ويدعوننا رغبا ورهبا، يقول تعالى ذكره : وكانوا يعبدوننا رغبا ورهبا ، وعنى بالدعاء في هذا الموضع : العبادة . انتهى.
وفي الحديث عن أنس ـ رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم دخل على شاب وهو في الموت فقال كيف تجدك؟ قال أرجو الله يا رسول الله، وإني أخاف ذنوبي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وأمنه مما يخاف. رواه الترمذي وحسنه الألباني.
والله أعلم.