عنوان الفتوى : حكم الوقف الأهلي بعد قرار إلغائه في بعض البلاد

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

سيدة كانت تمتلك عقارا، وقامت بالذهاب للمحكمة، وجعلت العقار وقفا عليها وعلى ذريتها من بعدها، واشترطت أن يخرجوا مبلغاً لعمل ختمات قرآن في المنزل في المناسبات الدينية، ثم صدر قانون بإلغاء الأوقاف الأهلية، فذهبت إلى المحكمة، وقامت بإلغاء الوقف، وبعد وفاتها باع ابنها العقار إلى والدي، ومضى ٣٠ عاما، ثم ورثنا العقار أنا وإخوتي. السؤال: هل ما أوصت به السيدة من عمل ختمات قرآن يعد وقفا خيريا؟ وهل يصح لها أن تلغى الوقف؟ وهل علينا نحن التزاما شرعاً؟

مدة قراءة الإجابة : 9 دقائق

الحمد لله.

أولاً:

إذا أوقف الإنسان شيئاً أصبح وقفاً ناجزاً لا يجوز الرجوع عنه، ولا بيعه ولا التصرف فيه، على قول جماهير أهل العلم من أصحاب المذاهب الأربعة.

ويدل لذلك ما رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر رضي الله عنهما: " أَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ أَصَابَ أَرْضًا بِخَيْبَرَ، فَأَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَأْمِرُهُ فِيهَا، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنِّي ‌أَصَبْتُ ‌أَرْضًا ‌بِخَيْبَرَ، لَمْ أُصِبْ مَالًا قَطُّ أَنْفَسَ عِنْدِي مِنْهُ، فَمَا تَأْمُرُ بِهِ؟ قَالَ: (إِنْ شِئْتَ حَبَسْتَ أَصْلَهَا وَتَصَدَّقْتَ بِهَا)، قَالَ: فَتَصَدَّقَ بِهَا عُمَرُ: أَنَّهُ لَا يُبَاعُ وَلَا يُوهَبُ وَلَا يُورَثُ، وَتَصَدَّقَ بِهَا فِي الْفُقَرَاءِ، وَفِي الْقُرْبَى، وَفِي الرِّقَابِ، وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَابْنِ السَّبِيلِ، وَالضَّيْفِ، لَا جُنَاحَ عَلَى مَنْ وَلِيَهَا أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا بِالْمَعْرُوفِ، وَيُطْعِمَ غَيْرَ مُتَمَوِّلٍ" البخاري (2586)، ومسلم (1632). ففي الحديث دلالة ظاهرة أن الوقف لازم لا يجوز الرجوع فيه، ولا يورث.

وقد حكى بعض أهل العلم انعقاد إجماع الصحابة على ذلك. انظر "المغني" لابن قدامة (8/ 185)، و"تفسير القرطبي" (6/339).

وجاء في فتاوى اللجنة الدائمة ما نصه:" لا يجوز الرجوع فيما وقف من الأرض، ولا في بعضه لأنها خرجت من ملك الواقف بالوقف، إلا الانتفاع بها فيما جعلت له" انتهى من "فتاوى إسلامية" (3/23).

ثانياً:

الوقف الأهلي (الذري) ، هو: ما جعل الواقف منفعته لأفراد معينين، أو لذريتهم سواء من الأقارب أو من الذرية (الأولاد والأحفاد والأقارب) أو غيرهم من الفقراء.

ويقوم على أساس حبس العين والتصدق بريعها على الواقف نفسه وذريته من بعده أو من حددهم.

وهذا النوع من الأوقاف جائز باتفاق المذاهب الأربعة، ويعتبر من أفضل القربات ، لقوله صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ الصَّدَقَةَ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ ، وَعَلَى ذِي الرَّحِمِ اثْنَتَانِ: ‌صَدَقَةٌ ‌وَصِلَةٌ) النسائي (2582)، وابن ماجة (1844)، وصححه الألباني في "صحيح النسائي" (2581).

 ولقوله - صلى الله عليه وسلم - لأبي طلحة: (أَرَى أَنْ تَجْعَلَهَا فِي الْأَقْرَبِينَ) البخاري (2601).

قال ابن الهمام: "لو ‌وقف ‌على ‌أولاده ‌وأولاد ‌أولاده لا يدخل ابن البنت في ظاهر الرواية" انتهى من "فتح القدير على الهداية " (5/ 323).

قال خليل: "إذا قال: هذا ‌وقف ‌على أولادي أو على ‌ولدي، فإنه يكون على أولاد الصلب مطلقاً ذكراً أو أنثى" انتهى من "التوضيح في شرح مختصر ابن الحاجب" (7/302).

وقال النووي رحمه الله: "لو ‌وقف ‌على ‌أولاده، ‌وأولاد ‌أولاده، دخل فيه أولاد البنين، والبنات" انتهى من "روضة الطالبين وعمدة المفتين" (5/336).

قال في الإنصاف:" وإن ‌وقف ‌على ‌ولده ثم على المساكين، فهو لولده الذكور والإناث بالسوية" انتهى من "الإنصاف" (16/462).

وهذه النقول تدل على أن المعتمد في المذاهب الأربعة صحة الوقف على الذرية (الوقف الأهلي)، مع اختلاف فيما بينهم فيمن يدخل في هذا الوقف.

ثالثاً:

يجوز أن يدخل الواقف نفسه في هذا الوقف، بل يجوز أن يقف على نفسه منفردا .

قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: "يصح الوقف على النفس، اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، وجماعة من العلماء المحققين؛ لأن الوقف على النفس فيه فائدة، وهي الامتناع من التصرف فيه، فلا يبيعه ولا يهبه ولا يرهنه، وأنه إذا مات صرف مصرف الوقف المنقطع، ولم يكن ميراثاً للورثة" انتهى من "الشرح الممتع على زاد المستقنع" (11/27).

رابعاً:

ما شرطه الواقف من قراءة الختمات في البيت في المناسبات، هذا أمر غير مشروع، فيبدل إلى نظائره الجائزة شرعاً، مثل حلقات تعليم القرآن ونحوها من المصارف المهتمة بتعليم القرآن الكريم ونشره.

جاء في فتوى اللجنة الدائمة..."فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء " (9/ 43) ما نصه: "لم يثبت عن النبي- صلى الله عليه وسلم- فيما نعلم - أنه قرأ القرآن ووهب ثوابه للأموات من أقربائه أو من غيرهم، ولو كان ثوابه يصل إليهم لحرص عليه، وبينه لأمته لينفعوا به موتاهم، فإنه عليه الصلاة والسلام بالمؤمنين رءوف رحيم، وقد سار الخلفاء الراشدون من بعده وسائر أصحابه على هديه في ذلك -رضي الله عنهم- ولا نعلم أن أحداً منهم أهدى ثواب القرآن لغيره، والخير كل الخير في اتباع هديه- صلى الله عليه وسلم- وهدي خلفائه الراشدين وسائر الصحابة -رضي الله عنهم- ، والشر في اتباع البدع ومحدثات الأمور؛ لتحذير النبي- صلى الله عليه وسلم- من ذلك بقوله: (إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة) ، وقوله: (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) وعلى هذا لا تجوز قراءة القرآن للميت، ولا يصل إليه ثواب هذه القراءة بل ذلك بدعة".

قال شيخ الإسلام ابن تيمية: وبالجملة: لا خلاف بين العلماء أن مَن وقف على صلاةٍ أو صيام أو قراءةٍ أو جهادٍ غير شرعي ونحو ذلك: لم يصحَّ وقفُه، بل هو يُنهى عن ذلك العمل وعن البذل فيه" مجموع الفتاوى (31/37).

خامساً:

ما سبق بيانه هو عرض للحكم الشرعي الذي كان الواجب العمل به في تلك الواقعة .

ولكن أما وقد وقعت، فإن القرار الحكومي الصادر بإلغاء الأوقاف الأهلية عززته الحكومة بفتاوى من الجهات الرسمية للفتوى التي كان على رأسها علماء هم مرجعية الكثير من عامة الناس .

والغالب أن الناس قد اتجهت إلى إلغاء هذه الأوقاف بناء على القرار المعزز بتلك الفتاوى الصادرة من تلك الجهات.

انظر: "فتاوى الديار المصرية، فتوى الشيح جاد الحق رحمه الله: إلغاء الوقف الأهلي وسنده" (7/266 ترقيم الشاملة).

وإذا تم مراعاة ذلك، مع ما كان مشتهرا في تلك الفترة من إفتاء مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم رجمه الله بإبطال الوقف على الذرية (انظر: "فتاوى ورسائل سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم" (9/ 100).

بل مجرد إلغاء الحكومات لهذا الوقف، وعدم اعتراف المحاكم الشرعية به: عذر كاف في بطلانه، وعودته إلى ملك صاحبه في حياته، أو إلى ورثته إن كان قد مات؛ فإن إبقاء الوقف، بلا سند، ولا حجة، ولا اعتراف به من المحاكم في البلد المعين: تسليط لغير أصحاب الحق عليه، وتعريض للملك إلى الضياع، من غير منفعة، ولا مصلحة شرعية راجحة.

وبناء على ذلك؛ فإنه يُقر تصرف المرأة بإلغاء الوقف المذكور، وبيع أولادها للعقار؛ لأنه بهذا الاعتبار دخل في ملكهم ملكاً تاماً، يصح بيعه والتصرف به، وتلغى أي تبعات أو التزامات تعلقت بهذا الوقف.

وينظر جواب السؤال (354384)

والله أعلم