عنوان الفتوى : طعام أهل الكتاب ونصائح للمسلمين المقيمين في بلاد الغرب
حضرة الأستاذ مصطفى الزرقا المحترم.
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد، يا والدي، فإني أعاني من مشكلة حَرِجة لا أدري كيفية الخروج منها، وأعتقد بأن لَدَى سيادتكم معلومات أكيدة وفَتاوَى عنها، فأنا لا أملك الوقت الكافي للقيام بإعداد الطعام لنفسي ومضطر للأكل في مطاعم الجامعة، والدروس متراكمة بشكل واضح، فهل لك يا أستاذي الجليل أن تَجد لي مخرجًا من هذا المأزق، وَصَلَتني فَتواك الأولى مع الشكر الجزيل، ولكني كنت متشددًا في عدم القرب من لحوم الكفرة، والآن وقد طال المقام لي هنا، وسيَطُول لعدة سنوات؛ مما يُهدِّد صحتي بالانهيار لعدم تناول الغذاء الكافي، فأرجوك أن تُرسِل لي فتوى مشكورًا، وأنْ تُوضِّح لي نظرة الشرع الكريم تجاه هذا الوضع الدقيق، وكذلك الأمر بالنسبة للحوم الدجاج والأسماك.
ولك ألف شكر يا سيدي، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
بارك الله فيك وعليك.
تلقيت رسالتك المرسلة من غرونوبل حيث أنت من فرنسا، وفيها إشعار بوصول رسالتي السابقة إليك بشأن اللحوم في تلك البلاد، وما تُعانيه من جَرّاء نقْص تغذيتك بسبب اجتنابك إياها بصورةٍ مطلقة، رغم فتواي السابقة لك في الحدود التي يُوجد فيها مُفترج للمسلم الحريص على دِينه هناك.
فأقول لك مجددًا يا بني: إننا لسنا أحرص على إقامة ديننا اليوم من سلف هذه الأمة المحمدية وفقهائها الأولِين، فحيث تَختِلف اجتهاداتهم وآراؤهم العلمية في فهْم نصوص الشريعة، فلنا أن نأخُذ في حياتنا وتطبيقات شريعتنا بما نختار من آرائهم ومذاهبهم بعد أن يكونوا من أهل الاجتهاد، لأنَّ كلاًّ منهم يُمكِن أن يكون رأيه هو الصواب في فهْم النص. ومن هنا كان اختلافهم رحمة، لأنه يَفتَح للأمة أبوابًا في تطبيق الشريعة في حياتهم بحيث يُتاح لكل قومٍ أو بيئة إسلامية أن تأخُذ بما هو أيسر عليها، أو ربما هي أحْوج إليه، أو بما هو أكثر ملائمة لظروفها.
فيا بني ! إنك في ظرْف استثنائي من حياتك، وهو ظرف الدراسة في بلاد أجنبية، وقد بيَّنتُ لك إجمالاً في رسالتي السابقة أنَّ في المذاهب الفقهية من يَرى جواز أكل المسلم من لحوم أهل الكتاب ما اعتادوا إماتته من الحيوان المأكول اللحم في الشرع الإسلامي، دون نظر إلى طريقتهم في إماتته، بعد أن تكون هي الطريقة التي يُميتون بها الحيوان لأجل أكله، ولو أنها طريقة غير مقبولة من المسلم كالوَقْذ (وهو الضرب على الرأس) وكالخَنْق. والأدلة الشرعية مبسوطة في المراجع المُطَوَّلة التي لا وصول لك إليها، ولكنها ملخصة في كتاب “الحلال والحرام” للأستاذ يوسف القرضاوي ، وقد نبَّهتُ أهلك أنْ يشتروه، ويُرسِلوه إليك، فأفادوا أنه عندهم أو عندك.
فيا بني إنَّ الله تعالى قد يسَّر علينا هذا الدين الكريم، وجَعَله سمْحًا، ومَنَعنا من التزمُّت والتشدد فيه. ومن المقرر عند علماء الشريعة أنَّ الله تعالى يُحِبُّ أن تُؤتَى رُخَصه كما يُحِب أنْ تُؤتَى عزائمه. ومن الرُّخَص الآراء الفقهية المبُيحة عند اختلاف الاجتهادات المُعتَبرة.
فالذي أستطيع أنْ أَنصَحَك به ، وآمُل أن تَقتَنع وتَتقبَّله هو ما يلي:
1 – كُلْ من لحومهم (غير الخنزير) كُلْ ما يُمِيتونه بطريقتهم المعتادة لأجل أكْلِه، ولو كانت طريقتهم في ذلك مخالفة للطريقة الإسلامية، وذلك كلما وَجَدت نفسك في حاجة إلى اللحوم الحمراء أو الدجاج وسائر الطيور.
واجْتنِبْ فقط ما يأتي من البلاد الشيوعية؛ لأنهم لم يبقوا أهل الكتاب بسبب أنهم ملاحدة.
2 –اسْتَعِضْ على قَدْر الإمكان بلحم السمك، فإنه لا تَسرِي عليه أحكام التذكية (الذَّبْح) وطريقته، بل للمسلم أكْله حتى من المُشرك لا مِن أهل الكتاب فقط، وفي السمك يا بني فُرْجة عظيمة، ولا سيما الطون والسردين.
3 استَعِنْ أيضًا بالبيض، فإنه مباح للمسلم من أي يَدٍ كان حتى من المُشْرك، والبيض غذاء كامل قوي.
4 – وإن لم تَشأ فعليك بلحم اليهود فإنهم يذبحونه بطريقة متفقة مع حكم الإسلام، ولا يأكلون إلا من ذبائح حاخاميهم بطريقتهم، وهناك مراكز لهم في اللحم معروفة.
5 – أكثر أيضًا من الاعتماد في غذائك على اللبن الحليب أو الخاثر الرائب فإنه غذاء كامل، ففيما بينه وبين البيض والسمك تُقِيم أَوَدك على أكْمل وجْه وأيْسره.
هذا ما أستطيع قوله لك، وفيه لك فُسْحة بل فُسَحات، فلا تُشدِّد على نفسك بما لم يُشَدِّد به الله تعالى عليك، وقد قال لنا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم: “لن يُشاد الدِّين أحدٌ إلا غَلبه” أي: إنَّ كل مُتشدد سيكُون مغلوبًا في النهاية ومُضطرًا لأن يَترك تَشدُّده وإلا عَجَز، فلْيَقبل رُخَص الشريعة واعتدالها وسماحتها.
وأختم بالدعاء لك يا بني أنْ يُوفِّقك الله تعالى لكل ما فيه الخير لك وحسن المآل، أقَرَّ الله بك وبنتائج دراستك عيون الأهل والأحباب والأوطان، والسلام عليكم ورحمة الله.