عنوان الفتوى : إشكال حول مشابهة فاطمة لأبيها عليه الصلاة والسلام في المشية.
أشكلت عندي بعض الأحاديث، وصار عندي تناقض بينهما، وأرجو منكم أن تبينوا لي السبب. وهو كالاتي: كيف يمكن للسيدة فاطمة رضي الله عنها أن تمشي كمشية الرسول صلى الله عليه وسلم، فكما هو معروف في بداية الحديث الذي أسر فيه رسول الله لفاطمة بأنها سيدة نساء أهل الجنة، وحسب علمي أن تشبه النساء بالرجال حرام؟ فكيف لفاطمة رضي الله عنها أن تتشبه بمشية أبيها صلى الله عليه وسلم؟
الحمد لله.
كانت فاطمة بنت النبي صلى الله عليه وسلم رضي الله عنها أشبه الناس بأبيها في حديثها ومشيتها.
فعَنْ مَسْرُوقٍ عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ : " أَقْبَلَتْ فَاطِمَةُ تَمْشِي كَأَنَّ مِشْيَتَهَا مَشْيُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (مَرْحَبًا بِابْنَتِي ، ثُمَّ أَجْلَسَهَا عَنْ يَمِينِهِ أَوْ عَنْ شِمَالِهِ ...) الحديث رواه البخاري (3353) .
وعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها ، أَنَّهَا قَالَتْ: "مَا رَأَيْتُ أَحَدًا، كَانَ أَشْبَهَ كَلَامًا وَحَدِيثًا بِرَسُولِ اللهِ صَلى الله عَلَيه وسَلم مِنْ فَاطِمَةَ...".
أخرجه ابن حبان في "صحيحه" (3288)، والحاكم في "المستدرك" (4732) وقال : "هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ". وقال الذهبي في "التلخيص": بل صحيح .
وهذه المشابهة بين فاطمة وأبيها صلى الله عليه وسلم إما أن يكون المقصود بها المشابهة الجبلية الموروثة، وبالتالي فهي ليست مقصودة؛ فإن المشابهة ليست هي "التشبه" ؛ لأن التشبه هو تقصد الفعل، وتكلفه.
جاء في "الموسوعة الفقهية" (12/5) : " التشبه لغة : مصدر تشبه ، يقال : تشبه فلان : بفلان إذا تكلف أن يكون مثله والمشابهة بين الشيئين : الاشتراك بينهما في معنى من المعاني ، ومنه : أشبه الولد أباه : إذا شاركه في صفة من صفاته. ولا يخرج استعمال الفقهاء لهذا اللفظ عن المعنى اللغوي" انتهى.
ومثل هذه المشابهة: يدخل فيها عوامل كثيرة من الاعتياد والنشأة، ويدخل فيها الجبلة، والعوامل الوراثية أيضا.
والمشابهة بين الرجال والنساء منها ما هو جائز، ومنها ما هو ممنوع .
فالجائز هو ما لم يكن مختصًا بجنس دون آخر خاصة ما كان من باب الجبلة والخلقة ولم يكن مقصودًا .
والممنوع ما كان مختصًا بجنس دون آخر، كتشبه الرجال بالنساء فِي الْحَرَكَاتِ وَلِينِ الْكَلَامِ وَالزِّينَةِ وَاللِّبَاسِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الأُمُورِ الْخَاصَّةِ بِهِنَّ عَادَةً أَوْ طَبْعًا .
وكتشبه المرأة بالرجل في لباسه أو هيئته أو حركاته، فهنا يحرم التشبه، وفاعله ملعون؛ لما روى البخاري (5885) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: " لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ، وَالمُتَشَبِّهَاتِ مِنَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ".
قال الشيخ زكريا الأنصاري رحمه الله : " ضَبَطَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ مَا يَحْرُمُ التَّشَبُّهُ بِهِنَّ فِيهِ بِأَنَّهُ مَا كَانَ مَخْصُوصًا بِهِنَّ فِي جِنْسِهِ، وَهَيْئَتِهِ، أَوْ غَالِبًا فِي زِيِّهِنَّ، وَكَذَا يُقَالُ : فِي عَكْسِهِ ، فَإِنَّ تَشَبُّهَ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ حَرَامٌ فِي مِثْلِ مَا ذُكِر" انتهى من "الغرر البهية" (2/ 44).
وقال العيني: " وَمِثَال ذَلِكَ: تَشَبُّهُ الرِّجَال بِالنِّسَاءِ فِي اللِّبَاسِ وَالزِّينَةِ الَّتِي تَخْتَصُّ بِالنِّسَاءِ، مِثْل لُبْسِ الْمَقَانِعِ وَالْقَلَائِدِ وَالْمَخَانِقِ وَالأَسْوِرَةِ وَالْخَلَاخِل وَالْقُرْطِ وَنَحْوِ ذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ لِلرِّجَال لُبْسُهُ. وَكَذَلِكَ التَّشَبُّهُ بِهِنَّ فِي الأَفْعَال الَّتِي هِيَ مَخْصُوصَةٌ بِهَا كَالاِنْخِنَاثِ فِي الأَجْسَامِ وَالتَّأَنُّثِ فِي الْكَلَامِ وَالْمَشْيِ " انتهى من "عمدة القاري" (22/41).
وإما أن يكون المقصود أنها تمشي بجدية وانحدار، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يمشي .
قال القسطلاني رحمه الله : " (تمشي كأن مشيتها) بكسر الميم؛ لأن المراد الهيئة (مشي النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وكان إذا مشى كأنما ينحدر من صبب..." انتهى من "إرشاد الساري" (6/ 67).
وكذلك يقال في الكلام ، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم كلامًا فصلا واضحًا يفهمه كل من سمعه، وكان أحيانًا يعيد الكلام ثلاثًا ليُعقل عنه ، فلعلها كانت تتكلم على هذا النحو تشبها بأبيها، وهذا بلا ريب من الأمور المشتركة التي لا يختص بها الرجال عن النساء.
والحاصل : أن مشابهة فاطمة لأبيها صلى الله عليه وسلم في كلامه ومشيته إما أن يكون المقصود بها المشابهة الجبلية الموروثة غير المقصودة ، وغير المتكلفة .
أو أنها المشابهة في أمور لا يختص بها أحد الجنسين عن الآخر ، كانحدارها في المشي، وحسن بيانها للكلام ؛ كما كان ذلك هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وينظر للفائدة الفتاوى أرقام: (11083)، (178170).
والله أعلم.