عنوان الفتوى : ما حكم تخصيص زيارة القبور بيوم أو وقت؟
قلتم في السؤال رقم: (12322 ) بأنه لا يجوز تحديد وقت لزيارة القبور، وأن هذا من المحدثات، فأشكل علي حديث عائشة عند مسلم أنها قالت: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما كان ليلتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم يخرج إلى البقيع من آخر الليل" الحديث، فهذا في تحديد عدد أيام معين، وهو: تسعة أيام أو ثمانية، وفي تحديد جزء من اليوم، وهو: آخر الليل، أليس في هذا دليل على الجواز؟
الحمد لله.
أولا:
الابتداع إنما يتعلق بما يخترع من أمور مستحدثة وتنسب إلى الدين من غير مستند شرعي.
عن عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ فِيهِ، فَهُوَ رَدٌّ) رواه البخاري (2697)، ومسلم (1718).
كمن يخص يوما لزيارة المقابر اعتقادا أن في هذا التصرف فضلا دينيا خاصا، كما هو مشتهر بين الناس من تعمد زيارة المقابر أيام الجمع والأعياد.
أما مَنْ خصص يوما لزيارة المقابر، ولم يكن ذلك اعتقادا لفضل هذا اليوم على سائر الأيام، وإنما لكونه يراه هو الأنسب له ، إما لكونه لا يجد فراغا يتمكن فيه من زيارة المقابر إلا في ذلك اليوم، أو لغير ذلك من أحواله: فهذا أمر لا حرج فيه.
وقد سبق التنبيه على هذا في جواب السؤال رقم: (174753).
ثانيا:
أما الحديث الذي رواه الإمام مسلم (974) عَنْ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ، عَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: " كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ، فَيَقُولُ: (السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ غَدًا، مُؤَجَّلُونَ، وَإِنَّا، إِنْ شَاءَ اللهُ، بِكُمْ لَاحِقُونَ، اللهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ).
فهذا لا يستدل به على سنية تخصيص يوم لزيارة المقابر، فقول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: ( كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا ) ليس فيه تخصيص يوم دون آخر ، لأنها رضي الله عنها أخبرت بما تعلمه، فلا ينفي ذلك أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم زار المقابر في أوقات أخرى ، ولكنها حَكَت ما رأته .
قال الشيخ محمد بن علي بن آدم الأثيوبي رحمه الله تعالى:
"وقوله: (كَانَ لَيْلَتُهَا) فيه أنه صلى الله عليه وسلم يخرج كلّ ليلة من ليالي عائشة رضي الله عنها، ولا ينفي ذلك أنه ربما خرج في ليلة غيرها، ولكنها ما رأته" انتهى من "البحر المحيط الثجاج" (18/607).
وأما تخصيصه بالليل فيحتمل أن هذا أمر لم يواظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم طوال مدة عيشه مع عائشة رضي الله عنها ، بل كان ذلك في آخر حياته صلى الله عليه وسلم ، كما تدل الرواية الأخرى عند مسلم (974) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ قَيْسِ بْنِ مَخْرَمَةَ بْنِ الْمُطَّلِبِ، أَنَّهُ قَالَ يَوْمًا: " أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ أُمِّي قَالَ: فَظَنَنَّا أَنَّهُ يُرِيدُ أُمَّهُ الَّتِي وَلَدَتْهُ، قَالَ: قَالَتْ عَائِشَةُ: أَلَا أُحَدِّثُكُمْ عَنِّي وَعَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قُلْنَا: بَلَى، قَالَ: قَالَتْ: لَمَّا كَانَتْ لَيْلَتِي الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا عِنْدِي، انْقَلَبَ فَوَضَعَ رِدَاءَهُ، وَخَلَعَ نَعْلَيْهِ، فَوَضَعَهُمَا عِنْدَ رِجْلَيْهِ، وَبَسَطَ طَرَفَ إِزَارِهِ عَلَى فِرَاشِهِ، فَاضْطَجَعَ، فَلَمْ يَلْبَثْ إِلَّا رَيْثَمَا ظَنَّ أَنْ قَدْ رَقَدْتُ، فَأَخَذَ رِدَاءَهُ رُوَيْدًا، وَانْتَعَلَ رُوَيْدًا، وَفَتَحَ الْبَابَ فَخَرَجَ، ثُمَّ أَجَافَهُ رُوَيْدًا، فَجَعَلْتُ دِرْعِي فِي رَأْسِي، وَاخْتَمَرْتُ، وَتَقَنَّعْتُ إِزَارِي، ثُمَّ انْطَلَقْتُ عَلَى إِثْرِهِ، حَتَّى جَاءَ الْبَقِيعَ فَقَامَ، فَأَطَالَ الْقِيَامَ، ثُمَّ رَفَعَ يَدَيْهِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، ثُمَّ انْحَرَفَ فَانْحَرَفْتُ، فَأَسْرَعَ فَأَسْرَعْتُ، فَهَرْوَلَ فَهَرْوَلْتُ، فَأَحْضَرَ فَأَحْضَرْتُ، فَسَبَقْتُهُ فَدَخَلْتُ، فَلَيْسَ إِلَّا أَنِ اضْطَجَعْتُ فَدَخَلَ، فَقَالَ: (مَا لَكِ؟ يَا عَائِشُ، حَشْيَا رَابِيَةً!)
قَالَتْ: قُلْتُ: لَا شَيْءَ، قَالَ: لَتُخْبِرِينِي أَوْ لَيُخْبِرَنِّي اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ.
قَالَتْ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، فَأَخْبَرْتُهُ، قَالَ: (فَأَنْتِ السَّوَادُ الَّذِي رَأَيْتُ أَمَامِي؟) قُلْتُ: نَعَمْ، فَلَهَدَنِي فِي صَدْرِي لَهْدَةً أَوْجَعَتْنِي، ثُمَّ قَالَ: (أَظَنَنْتِ أَنْ يَحِيفَ اللهُ عَلَيْكِ وَرَسُولُهُ؟)
قَالَتْ: مَهْمَا يَكْتُمِ النَّاسُ يَعْلَمْهُ اللهُ، نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ جِبْرِيلَ أَتَانِي حِينَ رَأَيْتِ، فَنَادَانِي، فَأَخْفَاهُ مِنْكِ، فَأَجَبْتُهُ، فَأَخْفَيْتُهُ مِنْكِ، وَلَمْ يَكُنْ يَدْخُلُ عَلَيْكِ وَقَدْ وَضَعْتِ ثِيَابَكِ، وَظَنَنْتُ أَنْ قَدْ رَقَدْتِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أُوقِظَكِ، وَخَشِيتُ أَنْ تَسْتَوْحِشِي، فَقَالَ: (إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَ أَهْلَ الْبَقِيعِ فَتَسْتَغْفِرَ لَهُمْ)، قَالَتْ: قُلْتُ: كَيْفَ أَقُولُ لَهُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: قُولِي: (السَّلَامُ عَلَى أَهْلِ الدِّيَارِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُسْلِمِينَ، وَيَرْحَمُ اللهُ الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنَّا وَالْمُسْتَأْخِرِينَ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللهُ بِكُمْ لَلَاحِقُونَ).
قال القاضي عياض رحمه الله تعالى:
" وقولها: ( كلما كان ليلتها يخرج من آخر الليل ) معناه - والله أعلم -: في آخر عمره، وقبل أن يقبض لا قبل ذلك، يدل عليه الأحاديث الأخر، وإنكار عائشة خروجه لأولِ ما خرج، واستقصاؤها عليه " انتهى من "إكمال المعلم"(3/447).
والحاصل ؛ أن الحديث لا يدل على تخصيص زيارة القبور بوقت ما ، ولهذا لا نعلم أحدا من أهل العلم قال بفضيلة تخصيص هذا الوقت لزيارة المقابر.
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى:
" المهم أن الإنسان ينبغي له أن يزور القبور في كل وقت، في الليل، في النهار، في الصباح، في المساء، في يوم الجمعة، في غير يوم الجمعة، ليس لها وقت محدد، وكلما غفل قلبك واندمجت نفسك في الحياة الدنيا؛ فاخرج إلى القبور " انتهى من "شرح رياض الصالحين" (3 / 473).
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري |
---|
ما حكم تخصيص زيارة القبور بيوم أو وقت؟ |