فقد قيل
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
فقد قيلكلُّ مسلم يُقرُّ بداهةً أننا كبَشرٍ خُلِقنا لنَعبُد الله؛ ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات: 56]، وهذه العبادة مِن الناحية السلوكية الخاصَّةِ بالجوارح منضبطةٌ بحدود ما شرَعَه الله لنا في القرآن والسُّنة، ومن الناحية الدافعية الخاصةِ بالقلب فهي متَّجِهة ناحيةَ إرضاء الله ونَيلِ ثوابه، وفي الوقت الذي تنحَرِف فيه عن هذا الاتِّجاه تَكون خرجَت عن كَونها عبادةً؛ بل قد تُصبِح معصية؛ فالعبادة هي انقيادُ الجوارح لأوامر الله، والإخلاص هو عبادة القلب.
وعمل الجوارح مهم، ولكن مَهمَّته تتوقَّف عند بَدء العمل، وهو بمثابة محدِّدٍ للعمل وشكلِه الخارجي، ولكن الأهم هو عمَل القلب الذي إن أفلَح في توحيد التوجُّه لله بالإخلاص فإن الله يتقبَّل العمل، وإن نجَح في تعديد وإكثار النوايا المتوجهة لله في العمل الواحد، فإنه يُضاعِف أجرَه للعمل الواحد، غير أنَّ القلب مُطالَب بالاستقامة قبل العمل وأثناءه؛ بل وبعدَه، بدَوام تفقُّد إخلاصه، وتجديده، والبعد عن محاولات النفس لاقتناص نصيبٍ لها من العمل بالرِّياء أو السُّمعة أو العُجب أو الغرور أو الكبر...
وبهذا نفهم معنى حديث النبيِّ صلى الله عليه وسلَّم: ((إنما الأعمال بالنيَّات)).
ولذلك فإنه يتَشابه عملُ اثنين ولكن يتَفاوتان في الأجر حسَب النية؛ فقد تجد شابَّين متطوِّعَين في عملٍ خيري واحد، ويَقومان بنفس المَهمّة، وتتشابه أعمالُ جوارحِهما، ولكن بسبب الفرق الشاسع بين توجُّه قلبَيهِما تجد هذا يَحوزُ أعلى الأجور، وذاك يبوء بالخسران ويبور! وقِسْ على ذلك كلَّ الأعمال الصالحة.
ولذلك أيضًا كانت التحذيرات القرآنيَّة والنبوية مِن نواقض استِقامة القلب أكثرَ وأشدَّ، فنجد آيةَ: ﴿ وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [الزمر: 65] تُنبِّهنا إلى أنه مع انتفاءِ الإخلاص ينتَفي العملُ كاملاً، بل يُصبح عالةً على صاحبه، ويجعله خاسرًا.
جديرٌ بالذِّكر أن نَعلم أن الشِّرك نوعان:
جليٌّ وخفي، والجلي يَندُر وجوده بين أوساط المسلمين، وهو إشراك أحدٍ غير الله بالعبادة، واتخاذه إلهًا مع الله، أما الشرك الخفي فهو مُنتشِر بين غالبيَّة المسلمين؛ ولهذا كان التنبيه النبويُّ عليه شديدًا؛ ففي الحديث: ((أخوَفُ ما أخاف عليكم الشِّركُ الخفي، أمَا إنكم لَستم تَعبدون صنَمًا ولا حجرًا، ولكِنْ شهوة خفيَّة، وأعمالٌ لغير الله))! إنَّ الخطر الظاهر يَسهُل تَجنُّبه والابتعاد عنه، أما الخطر المتخفِّي فإن التحرُّز منه صعب؛ ولهذا كان التنبيه النبويُّ بمثابة تحذيرٍ وإنذار لكل مسلم.
إن الله سبحانه يتَعالى بكِبْريائه وعزّته عن أن يتَقبَّل عملاً أُشرِك فيه غيره؛ ففي الحديث القدسي الذي يرويه النبي صلى الله عليه وسلم عن رب العزة: ((أنا أغنى الأغنياء عن الشِّرك، مَن عمل عَملاً أشرك فيه غيري تَركتُه وشِركَه))، فليس مِن الحياء مع الله أن تتقرَّب إليه بعَملٍ تُريد به وجهَ غيره معه؛ فأين الحياء إن لم يكن الأدب؟!
ثم إنَّ نُبل العمل وعظَمتَه لا تَغفِر عدم الإخلاص، ولا تَجبُر التقصير فيه، فأنت لن تَبذُل أكثرَ ولا أغلى مِن نفسك أو مالك أو عِلمك في سبيل الله، ومع ذلك فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم حذَّرَنا أن هذا البذل قد يجرُّ صاحبه إلى النار؛ إذا لم يُصاحِبه إخلاصٌ يَقهر مَطامع الشيطان فيك؛ بأن تُرائيَ أو تُعجَب أو تتكبَّر؛ ففي الحديث الذي يَرويه مسلمٌ عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلَّم قال: ((إن أوَّل الناس يُقضى يوم القيامة عليه رجلٌ استُشهد، فأُتي به، فعرَّفه نِعمَه فعرَفها، قال: فما عَمِلتَ فيها؟ قال: قاتلتُ فيك حتى استُشهدتُ، قال: كذبتَ ولكنك قاتلتَ لأن يُقال: جريءٌ، فقد قيل! ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى أُلقي في النار، ورجلٌ تعلم العلم وعلَّمه وقرأ القرآن، فأتي به فعرَّفه نعمه فعرَفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: تعلمتُ العلم وعلَّمتُه وقرأتُ فيك القرآن، قال: كذبتَ ولكنك تعلمتَ العلم ليُقال: عالمٌ، وقرأتَ القرآن ليقال: هو قارئٌ، فقد قيل! ثم أمر به فسُحب على وجهه حتى ألقي في النار، ورجلٌ وسَّع الله عليه وأعطاه مِن أصناف المال كلِّه، فأُتي به، فعرَّفه نعمه فعرفها، قال: فما عملتَ فيها؟ قال: ما تركتُ من سبيلٍ تحب أن ينفق فيها إلا أنفقتُ فيها لك، قال: كذبت، ولكنك فعلتَ ليُقال: هو جوادٌ، فقد قيل! ثم أمر به فسحب على وجهه ثم ألقي في النار)).
هذا الحديث يخبرنا أن مع الإخلاص ينفعنا صغيرُ العمل وكبيره، وبدون الإخلاص لا ينفعنا لا صغير العمل ولا كبيره؛ بل يُصبح وَبالاً علينا! فراجِع نفسَك قبل أيِّ عمل صالح تعمَله، وراجِعْ قلبك وجدِّد نيتك، ونقِّها وطهِّرها من أن يختلط بها شيء من داءِ "ليُقال عَنك".
وعَى ذلك ابنُ القيم وتفهَّمَ قيمةَ الإخلاص واستقامةِ القلب، فهتَف فينا محذِّرًا في إحدى دُررِه: "الذي يَعمل بلا إخلاص كالذي يملأ جِرابه رَملاً ليُعينه في السفر"! بدلاً من أن يملأه ماء يَشرب منه إذا ظَمِئ في الطريق.
فاحذر يا صديقي أن تَملأ جرابك من الأعمال الصالحة غير المخلِصة التي تكون عِبئًا عليك في رحلتك إلى الله بدون فائدةٍ منها، ثم تتحسَّر عليها يوم تنكشِف هذه الأعمال يوم القيامة، ولا تجد فيها ما يَروي ظمأك للجنة ونعيمِها ورُفقة الصالحين.