عنوان الفتوى : هل النبي صلى الله عليه وسلم منزه عن النسيان؟!
كنت قد سمعت في فيديو ما بخصوص قوله تعالى: ( وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا)، " أن نبينا محمد كان كثير التعبد، لدرجة أنه كان ينسى حتى أموره الدنيوية، واحتياجاته من كثرة تعبده لله تعالى، فكيف يمكن أن ينسى قول إن شاء الله، وهو الذي لا يجف لسانه عن ذكر الله؟ الأمر وما فيه أن الله تعالى بنفسه هو من أنساه هذا الأمر كي يعلمه ويعلم الصحابة " فما صحة هذا الكلام؟
الحمد لله.
قال الله تعالى: وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا ، إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا الكهف/23 – 24.
خاطب الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ .
والأصل في نصوص القرآن أن تحمل على ظاهرها ، ولا يُتكلف لها معنى غير الظاهر إلا بدليل.
قال الشيخ المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى:
" والقاعدة المقررة في الأصول: أن ظاهر القرآن لا يجوز العدول عنه إلا بدليل يجب الرجوع إليه " انتهى من"أضواء البيان" (4/730).
فأين الدليل على أن النبي صلى الله عليه وسلم منزه عن النسيان مطلقا؟!
بل أدلة الوحي يشهد بعضها لبعض أن النبي صلى الله عليه وسلم قد يعرض له النسيان المطبوع عليه البشر.
كمثل ما روى البخاري (401)، ومسلم (572) عَنْ عَلْقَمَةَ، قَالَ: قَالَ عَبْدُ اللَّهِ - ابن مسعود -: " صَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ إِبْرَاهِيمُ: لاَ أَدْرِي زَادَ أَوْ نَقَصَ - فَلَمَّا سَلَّمَ قِيلَ لَهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَحَدَثَ فِي الصَّلاَةِ شَيْءٌ؟ قَالَ: وَمَا ذَاكَ؟، قَالُوا: صَلَّيْتَ كَذَا وَكَذَا، فَثَنَى رِجْلَيْهِ، وَاسْتَقْبَلَ القِبْلَةَ، وَسَجَدَ سَجْدَتَيْنِ، ثُمَّ سَلَّمَ، فَلَمَّا أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، قَالَ: إِنَّهُ لَوْ حَدَثَ فِي الصَّلاَةِ شَيْءٌ لَنَبَّأْتُكُمْ بِهِ، وَلَكِنْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ، أَنْسَى كَمَا تَنْسَوْنَ، فَإِذَا نَسِيتُ فَذَكِّرُونِي، وَإِذَا شَكَّ أَحَدُكُمْ فِي صَلاَتِهِ، فَلْيَتَحَرَّ الصَّوَابَ فَلْيُتِمَّ عَلَيْهِ، ثُمَّ لِيُسَلِّمْ، ثُمَّ يَسْجُدُ سَجْدَتَيْنِ.
وقد حدث نسيان لغيره من الأنبياء عليهم السلام، كمثل ما ورد في حديث أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قَالَ سُلَيْمَانُ بْنُ دَاوُدَ نَبِيُّ اللهِ: لَأَطُوفَنَّ اللَّيْلَةَ عَلَى سَبْعِينَ امْرَأَةً، كُلُّهُنَّ تَأْتِي بِغُلَامٍ يُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ - أَوِ الْمَلَكُ -: قُلْ: إِنْ شَاءَ اللهُ، فَلَمْ يَقُلْ وَنَسِيَ، فَلَمْ تَأْتِ وَاحِدَةٌ مِنْ نِسَائِهِ إِلَّا وَاحِدَةٌ جَاءَتْ بِشِقِّ غُلَامٍ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَلَوْ قَالَ: إِنْ شَاءَ اللهُ، لَمْ يَحْنَثْ، وَكَانَ دَرَكًا لَهُ فِي حَاجَتِهِ رواه البخاري (3424)، ومسلم (1654).
ولا شك أن هذا النسيان الذي قد يحدث للنبي صلى الله عليه وسلم فيه حكمة ولطف بالمؤمنين حيث يتأسون به في كيفية إصلاح ما ينسونه.
قال ابن القيم رحمه الله تعالى:
" وكان سهوه في الصلاة من تمام نعمة الله على أمته وإكمال دينهم، ليقتدوا به فيما يشرعه لهم عند السهو، وهذا معنى الحديث المنقطع الذي في "الموطأ": ( إِنِّي لأَنْسَى أَوْ أُنَسَّى لِأَسُنَّ ).
وكان صلى الله عليه وسلم ينسى، فيترتب على سهوه أحكام شرعية تجري على سهو أمته إلى يوم القيامة " انتهى من "زاد المعاد" (1/277).
وما ذكره من خبر "الموطأ" هو خبر ضعفه أهل العلم، ولا يعترض به على النصوص الصحيحة الثابتة.
قال العراقي رحمه الله تعالى:
" الحديث: (إِنِّي لأَنْسَى أَوْ أُنَسَّى لِأَسُنَّ).
والجواب: أن هذا الحديث لا أصل له، وإن كان ذكره مالك في "الموطإ" من بلاغاته، فهو أحد الأحاديث الأربعة التي في "الموطإ" بلاغا، ولم يوجد لها إسناد متصل ولا منقطع، قاله ابن عبد البر، ثم إن الرواية الصحيحة فيه على الإثبات لا على النفي: ( إِنِّي لأَنْسَى أَوْ أُنَسَّى لِأَسُنَّ ).
أي: إن الراوي شك هل قال: "أَنْسَى" أو "أُنَسَّى" ، ولو كانت الرواية على النفي لكان مخالفا للحديث الصحيح المتفق عليه من حديث ابن مسعود: ( إنما أنا بشر أنسى كما تنسون )، فأثبت له وصف النسيان ولم يكتف بذلك لئلا يقول قائل إن نسيانه ليس كنسياننا فقال: ( كما تنسون ).
وأثبت أولا العلة قبل الحكم بقوله: ( إنما أنا بشر )، وكما قال في الحديث الآخر: ( فنسي آدم فنسيت ذريته ) أخرجه الترمذي وصححه من حديث أبي هريرة " انتهى من "طرح التثريب" (3/ 9).
وما استدل به صاحب الفيديو من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان دائم التعبد ، فكيف ينسى إسناد المشيئة لله تعالى؟!
فهذا لا يعد دليلا، لأنه يفهم من كلامه أن النسيان لا يكون إلا بدافع الغفلة، وهذا ليس بلازم؛ فالإنسان العادي قد ينسى بعض المهمات لاشتغاله بأشياء نافعة أخرى.
والحاصل:
أن ما ذكر في هذا الكلام باطل، لا أصل له ، وهو مصادم للنصوص الشرعية الصحيحة. وهو من أبواب الغلو البارد الذي لا حاجة إليه، ومقام النبي صلى الله عليه وسلم أجل وأعظم وأعلى من التكلفات، والأكاذيب.
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |