عنوان الفتوى : إشكال حول تصرف نبي الله إبراهيم مع هاجر
كيف يقول إبراهيم الخليل لسارة عن هاجر (افعلي بها ما شئت)، وكيف يلبي طلب سارة بهجرها وتركها في مكان نائي دون رعاية.
الحمد لله.
أولا:
من المقرر الذي لا خفاء به على مسلم أن الإيمان بالرسل: هو أحد أركان الإيمان الثابتة، التي لا يصح لأحد إيمان ولا إسلام، بدونها، ولا يقبل منه صرف ولا عدل ما لم يأت بها. وهذا ركن ثابت بكتاب الله وسنة نبيه، وبإطباق المسلمين على ذلك قرنا بعد قرن، فهو من أعظم الضروريات المعلومة من دين الله جل جلاله.
قال الله تعالى: آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ البقرة/285.
وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا * وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا النساء/150-153.
والآيات والأحاديث في ذلك الأصل العظيم كثيرة معلومة، لا تخفى على مسلم.
وإذا كان ذلك في حق الأنبياء عامة، أن نؤمن بهم جملة وتفصيلا، فنبي الله إبراهيم عليه السلام هو أبو الأنبياء، وهو خليل الرحمن؛ قال الله تعالى: وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا النساء/125.
فأي مقام لذلك النبي العظيم الجليل الذي اتخذه رب العزة جل جلاله، خليلا له؟! صلى الله عليه وعلى نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم:(241787)، ورقم:(122509).
ثانيا:
ليس الإيمان بالرسل مجرد تصديق قلبي بوجودهم أو بعثتهم، وليس مجرد كلمة تقال باللسان، بل مع هذا كله عمل حقيقي، عمل قلبي، وعمل بالجوارح، فيما أمرنا به من شرائعهم. فمن أعظم أعمال القلب محبتهم وإجلالهم وتقديرهم وتوقيرهم وتعظيمهم التعظيم اللائق بهم، لأنهم خير البشر، وصفوة الله من خلقه، وهم نور الهداية الذي أضاء الأرض من ظلمتها، وآنسَ القلوبَ مِن وحشتها، ولا سبيل إلى السعادة والفلاح إلا بهم وبسببهم.
وقد أمرنا عز وجل بتوقير نبينا عليه الصلاة والسلام فكذلك الحكم لسائر الأنبياء، يقول الله عز وجل : إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا. لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا الفتح/8-9.
ومن أصول الإيمان بالأنبياء ألا نفرق بين أحد من رسل الله الكرام؛ فلكل حق واجب من المحبة والتعظيم والتوقير. قال الله تعالى: قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ آل عمران/84.
وينظر جواب السؤال رقم:(159664)، ورقم:(8292).
ثالثا:
ينبغي للعاقل الناصح لنفسه أن يتهم رأيه على الدين، ولا يجعل ما يفهمه عيارا للصواب والخطأ، والقسوة والرحمة، والهدى والضلال؛ فإن زيغ الرأي وضلال العقل، أقرب من استحكام الشبهة، أو وقوع الريب في أمر الدين؛ فضلا أن يوقع في النفس تنقصا لأحد من أنبياء الله الكرام، فتلك العثرة لا إقالة لصاحبها، إلا أن يتوب توبة نصوحا ويرجع إلى صوابه ورشاده.
ولنضرب لك مثالا:
ماذا لو أنك علمت، أو سمعت أن نبي الله إبراهيم عليه السلام، قد لقي غلاما صغيرا في الطريق، فقتله .. من غير ذنب ظاهر لنا .. ومن غير جريرة من الغلام على نبي الله؛ فماذا كنت قائلا؟!
لقد فعل ذلك الخضر عليه السلام، واعترض عليه موسى عليه السلام في بادئ الأمر، حتى بين له لأي شيء صنع ذلك، وبين له أن لم يصنعه إلا بأمر من الله عز وجل. والقصة معروفة في "سورة الكهف". وينظر جواب السؤال رقم:(147071).
ونبي الله إبراهيم عليه السلام، أعظم وأجل مقاما من الخضر عليه السلام، ومن موسى كليم الله أيضا؛ بل ومن كل الأنبياء، سوى نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم. فلا شك أنه أولى ألا تعجل بالتشكك في فعله، أو الاسترابة فيما أتى به من الأمر؛ فما أدراك أيها العبد أن ذلك لم يكن من وحي الله الذي جهلته، ولم تعلم له وجها ولا تأويلا؟!
روى البخاري (7308)، ومسلم (1785) عَنْ أَبِي وَائِلٍ قَالَ: قَالَ سَهْلُ بْنُ حُنَيْفٍ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّهِمُوا رَأْيَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، لَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ أَبِي جَنْدَلٍ، وَلَوْ أَسْتَطِيعُ أَنْ أَرُدَّ أَمْرَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَيْهِ لَرَدَدْتُهُ، وَمَا وَضَعْنَا سُيُوفَنَا عَلَى عَوَاتِقِنَا إِلَى أَمْرٍ يُفْظِعُنَا، إِلَّا أَسْهَلْنَ بِنَا إِلَى أَمْرٍ نَعْرِفُهُ، غَيْرَ هَذَا الأَمْرِ .
قال الإمام الشاطبي، رحمه الله: " فوجه الشاهد منه أمران: قوله: (اتهموا الرأي)؛ فإن معارضة الظواهر، في غالب الأمر: رأي غير مبني على أصل يرجع إليه.
وقوله في الحديث، وهو النكتة في الباب: (والله ما وضعنا سيوفنا) إلى آخره، فإن معناه: أن كل ما ورد عليهم في شرع الله، مما يصادم الرأي: فإنه حق؛ يتبين على التدريج، حتى يظهر فساد ذلك الرأي، وأنه كان شبهة عرضت، وإشكالا ينبغي أن لا يلتفت إليه، بل يُتهم أولا، ويُعتمد على ما جاء في الشرع، فإنه إن لم يتبين اليوم، تبين غدا. ولو فرض أنه لا يتبين أبدا؛ فلا حرج، فإنه متمسك بالعروة الوثقى.". انتهى، من "الاعتصام" (3/270).
رابعا:
وأما بخصوص ما استشكلته في سؤالك: فينبغي أن يعلم أن هذه الرواية التي ورد فيها أن إبراهيم عليه السلام قال لسارة: " افعلي بها ما شئت": هي من أخبار أهل الكتاب التي لا تصدق ولا تكذب، كما نص على ذلك ابن كثير في البداية والنهاية (1/354).
والقاعدة في أخبار أهل الكتاب: أنه إذا كان يترتب عليها نسبة النقص لنبي من الأنبياء، فإنها تُرَدُّ؛ لأنها لم تثبت أصلاً، فكيف ينسب النقص إلى نبي من أنبياء الله، بخبر لا يُعلم من رواه، ولا عمن أخذه؟!. ينظر السؤال رقم: (349076 ) لمزيد توضيح هذه القاعدة.
هذا على فرض أن الخبر الذي أوردته يتضمن نقصاً في نبي الله إبراهيم، أو فيه ظلم لهاجر.
ومع هذا فيقال: إن إدراك طبيعة العلاقة بين هاجر وسارة، قد يجعل إبراهيم عليه السلام يراعي سارة ويقدمها على هاجر، في مثل هذه الحالة؛ ذلك لأن هاجر كانت مملوكة لسارة، وكانت في خدمتها، ولما تأخر إنجاب السيدة سارة للولد، طلبت من إبراهيم عليه السلام أن يدخل بهاجر، لعل الله أن يرزقه منها بولد، فلما حملت منه غارت منها سارة. "البداية والنهاية" (1/354).
وقد ذكر أهل العلم أن إبراهيم عليه السلام هو الذي خرج بهاجر وابنه، لا أن سارة هي التي طلبت ذلك منه.
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " ويقال إن سارة اشتدت بها الغيرة، فخرج إبراهيم بإسماعيل وأمه إلى مكة لذلك" انتهى من "فتح الباري" (6/401).
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: " لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان؛ خرج بإسماعيل وأم إسماعيل، ومعهم شنة فيها ماء" رواه البخاري(3185).
قال الحافظ: قوله – أي: ابن عباس - : " لما كان بين إبراهيم وبين أهله " يعني : سارة " ما كان " يعني : من غيرة سارة لما ولدت هاجر إسماعيل" انتهى من " فتح الباري " (6/407) .
وهذا الذي فعله إبراهيم عليه السلام من ذهابه بهاجر وابنها إسماعيل وتركهما في مكة بغير طعام إلا شنة ماء، إنما كان بوحي من الله، كما ورد في "صحيح البخاري"(3184) أن هاجر قالت لإبراهيم بعدما تركها وابنها إسماعيل في مكة وليس عندهم شيء: (يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها. فقالت له: آالله الذي أمرك بهذا ؟ قال: نعم، قالت: إذن لا يضيعنا).
فقد رضيت هاجر بذلك، وسلمت لأمر الله، ووثقت به، وتوكلت عليه ...
ثم كان من بركة ذلك ما كان، مما هو معروف ظاهر لكل ذي عينين، وجعل فيهم النبوة والكتاب، وجعل من ذلك النسل، نبي آخر الزمان، محمد بن عبد الله ، صلى الله عليه وعلى أبويه إبراهيم وإسماعيل، وسلم تسليما كثيرا .
والله أعلم .