عنوان الفتوى : مذاهب العلماء في عقد التوريد
أستثمر مبلغا من المال مع أحد أقاربي في شركته (شركة توريدات). وشركته تقوم بالتعاقد مع شركات المقاولات لتوريد مواد البناء (رمل -إسمنت -طوب) إلى مواقع البناء. بعد التعاقد مع شركات المقاولات (بعقد توريد، أو أمر شراء) تقوم شركتنا بشراء مواد البناء من التجار (نقدا) ونقل مواد البناء من مخازن التجار إلى مواقع البناء الخاصة بعملائنا (شركات المقاولات) ويتم تحصيل قيمة مواد البناء من شركات المقاولات (آجل) بالتقسيط على خمسة أشهر بعد التسليم مثلا. أي أن شركتنا تقوم بشراء مواد البناء نقدا (بعد التعاقد مع عملائها بعقد توريد، أو أمر توريد مباشر) وتوريدها لشركات المقاولات (آجل بالتقسيط). فما حكم هذه المعاملة؟ وإذا كانت غير جائزة. فما حكم ما اكتسبته من مال في الفترة السابقة، وأنا لا أعلم الحكم؟ وهل يمكن (للخروج من هذه الإشكالية) دفع مبلغ لتجار مواد البناء؛ لكي تكون لنا بضاعة عندهم بقيمة هذا المبلغ، وعند التعاقد مع شركات المقاولات، يتم السحب من التجار من تحت حساب هذا المبلغ، وعمل تسوية في حالة زيادة المسحوبات عن هذا المبلغ، وهكذا؟
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فعقد التوريد المذكور في السؤال، مختلَف في حكمه، وقد صدر قرار من مجمع الفقه الإسلامي بعدم جوازه إذا كان الوعد ملزماً، ولم يعجل الثمن.
جاء في مجلة مجمع الفقه الإسلامي:
أولًا: عقد التوريد: عقد يتعهد بمقتضاه طرف أول، بأن يسلم سلعًا معلومة، مؤجلة، بصفة دورية، خلال فترة معينة، لطرف آخر، مقابل مبلغ معين، مؤجل كله، أو بعضه.
ثانيًّا: إذا كان محل عقد التوريد سلعة تتطلب صناعة، فالعقد استصناع، تنطبق عليه أحكامه، وقد صدر بشأن الاستصناع قرار المجمع رقم: 65 (3 / 7).
ثالثًا: إذا كان محل عقد التوريد سلعة لا تتطلب صناعة، وهي موصوفة في الذمة، يلتزم بتسليمها عند الأجل، فهذا يتم بإحدى طريقتين:
أ- أن يعجل المستورد الثمن بكامله عند العقد، فهذا عقد يأخذ حكم السلم، فيجوز بشروطه المعتبرة شرعًا، المبينة في قرار المجمع رقم: 85 (2 / 9).
ب- إن لم يعجل المستورد الثمن بكامله عند العقد، فإن هذا لا يجوز؛ لأنه مبني على المواعدة الملزمة بين الطرفين, قد صدر قرار المجمع رقم: (40 - 41) المتضمن أن المواعدة الملزمة تشبه العقد نفسه، فيكون البيع هنا من بيع الكالئ بالكالئ. أما إذا كانت المواعدة غير ملزمة لأحد الطرفين أو لكليهما، فتكون جائزة، على أن يتم البيع بعقد جديد، أو بالتسليم. اهـ.
فعلى هذا القول لا يكون تصحيح العقد بما ذكرت من دفع مبلغ من المال لتجار مواد البناء، ولكن تصحيحه يكون بأحد الأمرين المذكورين في قرار مجمع الفقه.
وما كسبته من المال قبل علمك بعدم جواز هذا العقد، فالراجح أنه مباح لك.
قال ابن تيمية -رحمه الله-: وما اكتسبه الرجل من الأموال بالمعاملات التي اختلفت فيها الأمة، ..... وكان متأولا في ذلك، ومعتقدا جوازه لاجتهاد، أو تقليد، أو تشبه ببعض أهل العلم، أو لأنه أفتاه بذلك بعضهم، ونحو ذلك. فهذه الأموال التي كسبوها وقبضوها ليس عليهم إخراجها، وإن تبين لهم بعد ذلك أنهم كانوا مخطئين في ذلك. اهـ.
وقد ذهب بعض أهل العلم المعاصرين إلى جواز العقد بالصورة المذكورة، ولم يروا منعه.
قال الدكتور يوسف الشبيلي: فالعقد بالصفة المذكورة في السؤال هو عقد توريد، وهو عقد جائز على الصحيح من أقوال أهل العلم، وأما المحظورات التي قد يتوهم اشتمال العقد عليها فهي غير مؤثرة.
1- فكون المورد يبيع ما لا يملك، لا يدخل في نهيه صلى الله عليه وسلم عن بيع الإنسان ما ليس عنده؛ لأنه يستثنى من النهي ما إذا كان المبيع موصوفاً في الذمة مؤجلاً، بدليل تجويزه عليه الصلاة والسلام لعقد السلم، ففي الصحيحين وغيرهما عن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن النبي صلى الله عليه وسلم قدم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين، فقال: "من أسلف في شيء، فليسلف في كيل معلوم، ووزن معلوم، إلى أجل معلوم". صحيح البخاري (2241)، وصحيح مسلم (1604)، وجامع الترمذي (1311).
ومن المعلوم أن المعقود عليه في عقود التوريد - ومنها العقد المشار إليه في السؤال- موصوف في الذمة مؤجل، وعلى هذا فيشترط في المعقود عليه أن يوصف وصفاً منضبطاً، وأن يكون موعد التسليم محدداً ومعلوماً للطرفين.
2- وأما كون العوضين - الثمن والمثمن- مؤجلين في عقد التوريد، فهذا أيضاً لا يؤثر في صحة العقد؛ لأن النهي عن بيع المؤجل بالمؤجل، إنما ثبت بالإجماع دون النص، والإجماع لم يقع على كل صور بيع المؤجل بالمؤجل، بل وقع على بعض الصور دون بعض، وحينئذٍ فإن التحريم يثبت في الصور التي وقع الاتفاق عليها دون التي وقع الخلاف فيها، وهذا العقد مما وقع فيه الخلاف فلا يثبت له التحريم، ومما يدل على ذلك أن أهل العلم جوزوا عقوداً متعددة يكون فيها العوضان مؤجلان، فمن ذلك:
أ- عقد الاستصناع (المقاولة) وقد نص على جوازه فقهاء الحنفية، وحكوا فيه الإجماع العملي، وهو عقد صحيح ولو كانت السلعة المستصنع فيها مصنوعة قبل العقد، وفي هذه الحال لا فرق بينه وبين عقد التوريد.
ب- بيعة أهل المدينة، وهي الشراء من دائم العمل حقيقة أو حكماً. قال في مواهب الجليل - نقلاً عن المدونة - (4/538): وقد كان الناس يتبايعون اللحم بسعر معلوم، يأخذ كل يوم شيئاً معلوماً، ويشرع في الأخذ ويتأخر الثمن إلى العطاء، وكذلك كل ما يباع في الأسواق، ولا يكون إلا بأمر معلوم يسمى ما يأخذ كل يوم، وكان العطاء يومئذ مأموناً، ولم يروه ديناً بدين واستخفوه.. وليس ذلك محض سلم، ولذلك جاز تأخير رأس المال إليه فيه، ولا شراء شيء بعينه حقيقة).
وفي المدونة (3/315) عن سالم بن عبد الله: كنا نبتاع اللحم كذا وكذا رطلاً، بدينار، يأخذ كل يوم كذا وكذا، والثمن إلى العطاء فلم ير أحد ذلك ديناً بدين، ولم يروا به بأساً) .
فهذا إجماع أهل المدينة على جواز تأجيل البدلين.
ج- بيع الموصوف في الذمة غير المعين، وهو جائز في أحد الأقوال في المذهب الحنبلي، وجوزه بعضهم من غير اشتراط قبض الثمن.
فجميع هذه العقود نص الفقهاء على جوازها مع أن العوضين فيها مؤجلان، وهو يؤكد أن الإجماع المحكي على تحريم ابتداء الدين بالدين، لا يشمل جميع صوره، لا سيما إذا كان العقد مما تقتضيه المصلحة، وتدعو إليه الحاجة. اهـ.
والله أعلم.