عنوان الفتوى : تعريض النفس للخطر للرقي في الطب والاختراعات
أريد أن أستفسر عن حكم تعريض النفس للخطر في سبيل العلم. فمثلا عند بداية اختراع الطائرة، يجب تجربتها من شخص. فما حكم هذا الشخص إذا مات؟ وما حكم المسلم الذي ركب الطائرة في بدايتها، وكانت غير آمنة، ومات؟ كما أسأل عن استخدام شخص حي نفسه لتجربة علمية، يجب تجربتها على إنسان؟ وشكرا جزيلا لكم.
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فهذه المسألة من المسائل المستجدة، التي ينبغي أن يكون الرأي الشرعي فيها صادرا عن المجامع الفقهية، وهيئات الفتوى التي يتوفر لديها باحثون في المجالات ذات الصلة.
والذي يمكن قوله إجمالا هو: أن مثل هذه الأمور إن كان يراد من ورائها مصلحة معتبرة، فالذي يظهر -والله تعالى أعلم- أنه يجوز المشاركة فيها إذا غلب على الظن السلامة، وبُذل ما في الوسع في تأمينها. وذلك أن من الفقهاء من نص على اعتبار غلبة الظن بحصول السلامة في إباحة التعرض للخطر!
ومن ذلك ما جاء في (فتاوى النووي): وإن اصطاد -يعني الحواء الذي يصيد الحيات ويجمعها- الحية ليرغب الناس في اعتماد معرفته، وهو حاذق في صنعته، ويسلم منها في ظنه، ولسعته: لم يأثم، وإذا انفلتت، وأتلفت لم يضمن. اهـ.
ولما قال النووي في (منهاج الطالبين): تصح المناضلة على سهام، وكذا مزاريق، ورماح، ورمي بأحجار، ومنجنيق، وكل نافع في الحرب على المذهب. اهـ.
نص الشراح على أن رمي كل رامٍ لصاحبه لا يجوز؛ لما فيه من الإضرار بصاحبه، واستثنوا الحاذقين، لكون حذقهم يُغلِّب الظن بسلامتهم، وقاسوا على ذلك الألعاب الخطيرة إذا غلب الظن بالسلامة، كما نصوا على عدم إثم صاحبها في هذه الحال إذا مات بسببها، كما قال ابن حجر الهيتمي في (تحفة المحتاج): إنما يحل الرمي إلى غير الرامي، أما رمي كل لصاحبه، فحرام قطعا؛ لأنه يؤذي كثيرا، ومحله إن لم يكن عندهما حذق يغلب على ظنهما سلامتهما، وإلا حل؛ أخذا من قول المصنف في فتاويه في البيع. -وذكر ما سبق نقله عن فتاوى النووي. ثم قال: ويؤخذ من كلامه هذا أيضا: حل أنواع اللعب الخطرة من الحذاق بها، الذين تغلب سلامتهم منها. اهـ.
وقال ابن قاسم العبادي في حاشيته: من ذلك ما يفعله من يسمى في عرف الناس بالبهلوان، ومن ذلك ما يسمى في عرف العامة الضياع، فكل ذلك يحل للحاذق الذي تغلب سلامته، بل الضياع المذكور داخل في قول الشارح "أما رمي كل لصاحبه". اهـ.
وقال الشرواني في حاشيته: ومنه البهلوان. وإذا مات يموت شهيدا. اهـ.
وقال الرملي في نهاية المحتاج: ويؤخذ من كلامه أيضا حل أنواع اللعب الخطرة، من الحاذق بها، حيث غلب على الظن سلامته. اهـ.
وقال الشبراملسي في حاشيته: ومنه اللعب بالرمح، المسمى عندهم بلعب العود. اهـ.
ومن ذلك أيضا قول ابن القاسم الحنبلي في حاشيته على الروض المربع: ويحرم التداوي بـ «سم» ، لقوله: {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} ... فإن كان الدواء مسمومًا، وغلبت منه السلامة، ورجي نفعه: أبيح؛ لدفع ما هو أعظم منه، كغيره من الأدوية، وكذا نبات فيه سمية إن غلبت السلامة مع استعماله. اهـ.
والمقصود هو التنبيه على أصل تعليق جواز ما ورد في السؤال بغلبة الظن بحصول السلامة، وإلا فهذا موضع نظر ومحل اجتهاد، وقد خالف في هذا الأصل بعض أهل العلم، فلم يجوزوا ذلك ولو غلبت السلامة.
فقد سئل عليش المالكي: عمن فصد ولدا، وأخذ قيحا أو صديدا من مجدور وجعله في تلك الفصدة، فمات الولد بسبب ذلك، أو فقئت عينه، أو شلت يده أو رجله، أو طرأ عليه غير ذلك. فهل هذا الفعل جائز أم لا...؟
فأجاب في فتح العلي المالك: لا يجوز لولي الطفل ولا لغيره فعله به، ولو خاف الولي على نفسه من ظالم؛ لأنه إدخال ضرر وتغرير بنفس الطفل وأطرافه، وإن غلبت السلامة ... وإن وقع ومات الطفل بسببه، فهو جناية عمدت.. اهـ.
وقد جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي المتعلق بشأن العلاج الطبي: لا بد في إجراء الأبحاث الطبية من موافقة الشخص التام الأهلية، بصورة خالية من شائبة الإكراه (كالمساجين) أو الإغراء المادي (كالمساكين). ويجب أن لا يترتب على إجراء تلك الأبحاث ضرر. اهـ.
فالمنع من ذلك يكون باعتبار حصول الضرر، والمعتبر في الحكم بوجود الضرر هو غلبة الظن، ولا يشترط اليقين، فإن الظنون الراجحة يجب العمل بها.
وقد عقد العز ابن عبد السلام لذلك فصلا في كتابه (قواعد الأحكام في مصالح الأنام) فقال: فصل: في بيان جلب مصالح الدارين، ودرء مفاسدهما على الظنون. اهـ.
وبين المقصود من ذلك، وضرب له أمثلة كثيرة، فراجعه إن شئت.
والله أعلم.