عنوان الفتوى : هل ما يعطيه عيسى عليه السلام من الكرامات تكون فتنة للناس؟
عندما يعود عيسى عليه السلام، فما هي القوى التي يعطيها الله تعالى له؟ خطرت لي فكرة ماذا لو أعطاه الله تعالى القدرة على إحياء الموتى مجدّدا عند عودته، والقدرة على قتل الكفار بأنفاسه كما يقول صحيح مسلم، وإذا لم يقابل الناس عيسى مباشرة، وسمعوا منه أنّ الله تعالى أعطاه هذه القوى كعلامة فقط، فربما يعتقدون أنّه واهب الحياة والموت؟ أيضاً إذا أُعطي هاتين القوّتين في نفس الوقت، فهل ستكون هذه أعظم معجزة أُعطيت لأيّ نبيّ؟ لكن أليس القرآن أعظم معجزة؟ نعلم أن الله لا يجعل الأمور مُربكة فكيف نفهم ذلك؟ ستظلّ طبيعة عيسى البشرية واضحة للناس، على الرغم من أن ذلك من شأنه أن يثبت بطلان هذه الفكرة للناس بأن لديه تلك القوى، أليس كذلك؟ ألا يعتبر منح هاتين القوتين في نفس الوقت أمرًا أعظم وأكثر إرباكًا من جعلهما منفصلين؟ أعلم أنها فكرة من الشيطان حول أحداث افتراضية، فكيف يمكن أن تنصرف عنّي هذه الفكرة؟
الحمد لله.
الوارد أن عيسى عليه السلام عند نزوله ينزل أثناء فتنة المسيح الدجال، فيعطى عليه السلام كرامة ذوبان الدجال عند رؤيته له.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ... فَيَنْزِلُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَمَّهُمْ، فَإِذَا رَآهُ عَدُوُّ اللهِ، ذَابَ كَمَا يَذُوبُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ، فَلَوْ تَرَكَهُ لَانْذَابَ حَتَّى يَهْلِكَ، وَلَكِنْ يَقْتُلُهُ اللهُ بِيَدِهِ، فَيُرِيهِمْ دَمَهُ فِي حَرْبَتِهِ رواه مسلم (2897).
ويعطى عليه السلام كرامة موت الكافر من ريح نفسه.عَنِ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ، قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ، فَخَفَّضَ فِيهِ وَرَفَّعَ... فَبَيْنَمَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللهُ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، بَيْنَ مَهْرُودَتَيْنِ، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ، إِذَا طَأْطَأَ رَأْسَهُ قَطَرَ، وَإِذَا رَفَعَهُ تَحَدَّرَ مِنْهُ جُمَانٌ كَاللُّؤْلُؤِ، فَلَا يَحِلُّ لِكَافِرٍ يَجِدُ رِيحَ نَفَسِهِ إِلَّا مَاتَ، وَنَفَسُهُ يَنْتَهِي حَيْثُ يَنْتَهِي طَرْفُهُ، فَيَطْلُبُهُ حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ، فَيَقْتُلُهُ ...
رواه مسلم (2937).
قال أبو العباس القرطبي رحمه الله تعالى:
" و(قوله: ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه)...
ويعني بذلك: أن الله تعالى قوى نَفَس عيسى عليه السلام حتى يصل إلى المحل الذي يصل إليه إدراك بصره، فمعناه: أن الكفار لا يقربونه، وإنما يهلكون عند رؤيته ووصول نفسه إليهم، تأييداً من الله له وعصمةً، وإظهارَ كرامةٍ ونعمة " انتهى من "المفهم" (7 / 284).
ثم لا يُعلم هل تستمر معه هذه الكرامة طوال مدة حياته على الأرض، أم لا.
قال محمد الأمين الهرري الشافعي رحمه الله تعالى:
" ... ويحتمل كون هذه الكرامة لعيسى أولًا حين نزوله، ثم تكون زائلة حين يرى الدجال ؛ إذ دوام الكرامة ليس بلازم. وقيل النفس الذي يموت الكافر لأجله هو النفس المقصود به إهلاك الكافر، لا النفس المعتاد ؛ فعدم موت الدجال لعدم النفس المراد... " انتهى من "الكوكب الوهاج" (26 / 255).
ولا يعلم أنه يعطى ما أعطي سابقا من إحياء الموتى، ولم يرد أنه يعطى ما يفتتن به الناس، بل تكون دعوته دعوة واضحة للإسلام.
عَنِ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيُوشِكَنَّ أَنْ يَنْزِلَ فِيكُمْ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَيَكْسِرَ الصَّلِيبَ، وَيَقْتُلَ الخِنْزِيرَ، وَيَضَعَ الجِزْيَةَ، وَيَفِيضَ المَالُ حَتَّى لاَ يَقْبَلَهُ أَحَدٌ رواه البخاري (2222)، ومسلم (155).
ولوضوح دعوته يدخل في الإسلام جموع من النصارى حيث يتضح لهم الحق ويستبين.
قال ابن كثير رحمه الله تعالى بعد ذكره لها:
" فيقتل الخنزير، ويكسر الصليب، ويضع الجزية، فلا يقبل إلا الإسلام كما تقدم في الصحيحين، وهذا إخبار من النبي صلى الله عليه وسلم بذلك، وتقرير وتشريع وتسويغ له على ذلك في ذلك الزمان، حيث تنزاح عللهم، وترتفع شبههم من أنفسهم؛ ولهذا كلهم يدخلون في دين الإسلام متابعة لعيسى، عليه السلام، وعلى يديه، ولهذا قال تعالى: ( وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ).
وهذه الآية كقوله تعالى: ( وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ ) وقرئ: "عَلَم" بالتحريك، أي إشارة ودليل على اقتراب الساعة " انتهى من "تفسير ابن كثير" (2 / 464 – 465).
والذي يليق بنا، نحن المسلمين، أن لا نصرف طاقة أذهاننا في أمور لم يرغبنا الشرع في البحث عنها، ولا نتعامل مع أخبار آخر الزمان بغير ما قصده الوحي، فالوحي جاء بهذه الأخبار للتبشير والإنذار، فيكتفي المسلم بدراستها على ضوء هذه المقاصد، فينتفع بها، فما فيها من بشرى يعينه على الصبر، وما فيها من إنذار يحثه على الاستزادة من الخيرات ومجانبة المنكرات.
قال أبو عبد الله القرطبي رحمه الله تعالى:
" قال العلماء رحمهم الله تعالى: والحكمة في تقديم الأشراط ودلالة الناس عليها: تنبيه الناس من رقدتهم، وحثهم على الاحتياط لأنفسهم بالتوبة والإنابة، كي لا يُباغَتوا بالحول بينهم وبين تدارك الفوارط منهم، فينبغي للناس أن يكونوا بعد ظهور أشراط الساعة قد نظروا لأنفسهم، وانقطعوا عن الدنيا، واستعدوا للساعة الموعود بها، والله أعلم " انتهى من "التذكرة" (3 / 1217).
ولا ينبغي للعاقل أن يغلو في تتبع هذه الأخبار واستثارة الشبهات منها، فيضعف الانتفاع بها أو ينعدم.
فالحاصل؛ أن الشبه التي طرحتها هي مجرد خيالات وخواطر نفس واهمة، أو وساوس من إبليس لقلب فارغ أصغى لها !! ولا يوجد في الأخبار الصحيحة، ولا في منطق العقل السليم ما يبعث على إثارتها !!
ومن العجب العُجاب: أن ما أخبرته به النصوص الصحيحة: يدل على إيمان أهل الكتاب بعيسى عليه السلام بعد نزوله، ويدل على تمام الحجة عليهم وعلى غيرهم، وانزياح عللهم، وانعدام شبههم ؛ ثم أنت تفترض من عند نفسك: أنه قد يحصل ما يسبب الشبهة، والتباس الحق بالباطل!!
سَأَلَ رَجُلٌ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنِ اسْتِلاَمِ الحَجَرِ، فَقَالَ: "رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ" .
قَالَ: قُلْتُ: أَرَأَيْتَ إِنْ زُحِمْتُ، أَرَأَيْتَ إِنْ غُلِبْتُ؟!
قَالَ: " اجْعَلْ أَرَأَيْتَ بِاليَمَنِ، رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَلِمُهُ وَيُقَبِّلُهُ" رواه البخاري (1611).
وفي رواية أبي داود الطيالسي (1976): " اجْعَلْ أَرَأَيْتَ مَعَ ذَلِكَ الْكَوْكَبِ .. " !!
قال العلامة الشيخ أحمد شاكر، رحمه الله:
" قوله "اجعل أرأيت باليمن": يريد الإنكار عليه أن يقابل خبره عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالأعاذير والتمحلات، وليس هذا من أدب المسلمين، بل يجب على المسلم إذا سمع الحديث الصحيح عن رسول الله -صلي الله عليه وسلم - أن يقبله دون تردد أو تلكؤ. وما ينبغي له إلا السمع والطاعة. وقد ضرب ابن عمر "اليمن" مثلا لجهة قاصية يرمي إليها هذا الاعتراض، أدبا مع السنة النبوية." انتهى، من "حاشية المسند" (5/551).
وقال الإمام الحافظ ابن رجب الحنبلي، رحمه الله:
"ومرادُ ابن عمر أنَّه لا يكن لك همٌّ إلا في الاقتداء بالنَّبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، ولا حاجةَ إلى فرضِ العجزِ عنْ ذلك أو تعسُّره قبلَ وقوعه؛ فإنَّه قد يفتُرُ العزمُ على التَّصميم على المتابعة، فإنَّ التَّفقُّهَ في الدِّين، والسُّؤالَ عن العِلم إنَّما يُحمَدُ إذا كان للعمل، لا لِلمراءِ والجدال." انتهى، من "جامع العلوم والحكم" (1/258).
وقال ابن الجوزي، رحمه الله:
" المعنى: احرص على استعمالك السنة ولا تتعلل." انتهى، من "كشف المشكل من أحاديث الصحيحين" (2/594).
فانظر يا عبد الله إلى هذا الصحابي الجليل، عبد الله بن عمر رضي الله عنه وعن أبيه، كيف أنه قطع مادة الوساوس والخيالات الفاسدة، والسؤالات الباردة عن هذا السائل، وأمره أن يرميها هناك بعيدا، في أقاصي البلاد، في اليمن ؛ لا بل قال له: بالغ في اطراحها مكانا سحيقا، حتى تبلغ بمرماها الكوكب؛ فلا تردها مرة أخرى، ولا هي تأتيك، لبعد الشقة بينكما!!
فتعوذ بالله من هذه الخيالات الفاسدة، واشغل وقتك بما فيه نجاتك من طلب العلم النافع، والعمل الصالح، واحرص على ما ينفعك، وإياك والفراغ، والخيالات الفاسدة؛ فإن عندك من الشغل بما ينفع ما فيه غنى، وشفاء!!
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |