عنوان الفتوى : نفخة الفزع، وموت شرار الخلق، وقيام الساعة عليهم، وصعق الملائكة
لدي إشكال، وذلك لقلة فهمي، يقول الله عز وجل في الآية الكريمة: (ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله) هنا سيصعق أهل السماء وهم الملائكة، ومن ثم الأرض، والسؤال هنا عند قيام الساعة على شرار الخلق، وموتهم من الصعقة، هل عند موتهم، وخروج أرواحهم يرون الملائكة كما في حديث البراء بن عازب، والملائكة هم سود الوجوه، ويرونهم مد البصر، ومعهم المسوح، وهم يأخذون الروح الخبيثة من ملك الموت، ويصعدون بها، وهنا أيضا الملأ يسألون ـ وهم الملائكة أيضا ـ من هذه الروح الخبيثة، كل هؤلاء الملائكة سواء سود الوجوه أو في الملأ وأيضا الملائكة الذين لا تفتح باب السماء الدنيا لهم فتطرح أرواحهم في الارض، هل كل هذا لا يحدث مع شرار الخلق، وذلك لأن الملائكة صعقت أولا؟ وأيضا عندما التقم إسرافيل الصور، ونفخ هو في السماء؛ لأنه من حملة العرش ـ كما أشار بعض العلماءـ وبهذا الملائكة أقرب للصعق من أهل الأرض، هذا سؤالي من جهة، ومن جهة أخرى البعض من أهل العلم قال: الملائكة كلهم مستثنون، فمن أهل السماء الذين صعقوا؟ ولكن لم أفهم ذلك لقلة علمي، آمل إزاحة هذه الشبهة عني، وأنا باذن الله تعالى أريد أن أستقيم، وأطلب العلم، أم إن هذه الأمور غيبية، ولا يعلمها الا الله عز وجل، ولا يجب الخوض فيها؟
الحمد لله.
أولًا :
لا تقوم الساعة إلا على شرار الخلق
دلت السنة الصحيحة على أن الساعة لا تقوم إلا على شرار الخلق، حين لا يقال في الأرض : الله ، ثم تقوم الساعة بعد ذلك.
روى مسلم (148) عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُقَالَ فِي الْأَرْضِ : اللَّهُ اللَّهُ.
وروى أحمد (3844) عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ شِرَارِ النَّاسِ مَنْ تُدْرِكُهُ السَّاعَةُ وَهُمْ أَحْيَاءٌ وَمَنْ يَتَّخِذُ الْقُبُورَ مَسَاجِدَ حسنه شعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند.
وروى مسلم (2940) عَنْ عَبْد اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَخْرُجُ الدَّجَّالُ فِي أُمَّتِي فَيَمْكُثُ أَرْبَعِينَ ، فَيَبْعَثُ اللَّهُ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ كَأَنَّهُ عُرْوَةُ بْنُ مَسْعُودٍ فَيَطْلُبُهُ فَيُهْلِكُهُ ، ثُمَّ يَمْكُثُ النَّاسُ سَبْعَ سِنِينَ لَيْسَ بَيْنَ اثْنَيْنِ عَدَاوَةٌ ، ثُمَّ يُرْسِلُ اللَّهُ رِيحًا بَارِدَةً مِنْ قِبَلِ الشَّامِ فَلَا يَبْقَى عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ إِيمَانٍ إِلَّا قَبَضَتْهُ ، حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَكُمْ دَخَلَ فِي كَبِدِ جَبَلٍ لَدَخَلَتْهُ عَلَيْهِ حَتَّى تَقْبِضَهُ ، قَالَ : فَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فِي خِفَّةِ الطَّيْرِ وَأَحْلَامِ السِّبَاعِ لَا يَعْرِفُونَ مَعْرُوفًا وَلَا يُنْكِرُونَ مُنْكَرًا فَيَتَمَثَّلُ لَهُمْ الشَّيْطَانُ فَيَقُولُ أَلَا تَسْتَجِيبُونَ ؟ فَيَقُولُونَ : فَمَا تَأْمُرُنَا ؟ فَيَأْمُرُهُمْ بِعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ ، وَهُمْ فِي ذَلِكَ دَارٌّ رِزْقُهُمْ ، حَسَنٌ عَيْشُهُمْ ، ثُمَّ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ .
قال النووي رحمه الله في شرحه : "قَوْله : ( فِي كَبِد جَبَل ) أَيْ وَسَطه وَدَاخِله .
قَوْله صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (فَيَبْقَى شِرَار النَّاس فِي خِفَّة الطَّيْر وَأَحْلَام السِّبَاع ) قَالَ الْعُلَمَاء : مَعْنَاهُ يَكُونُونَ فِي سُرْعَتهمْ إِلَى الشُّرُور وَقَضَاء الشَّهَوَات وَالْفَسَاد كَطَيَرَانِ الطَّيْر , وَفِي الْعُدْوَان وَظُلْم بَعْضهمْ بَعْضًا فِي أَخْلَاق السِّبَاع الْعَادِيَة .
وروى مسلم (2937) عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ رضي الله عنه قَالَ : ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الدَّجَّالَ ذَاتَ غَدَاةٍ . . . ثم ذكر نزول المسيح عيسى ابن مريم ، فَيَنْزِلُ عِنْدَ الْمَنَارَةِ الْبَيْضَاءِ شَرْقِيَّ دِمَشْقَ، وَاضِعًا كَفَّيْهِ عَلَى أَجْنِحَةِ مَلَكَيْنِ ، فَيَطْلُبُهُ ( أي يطلب المسيح الدجال) حَتَّى يُدْرِكَهُ بِبَابِ لُدٍّ فَيَقْتُلُهُ . . . ثم ذكر خروج يأجوج ومأجوج وهلاكهم ، ثُمَّ يُقَالُ لِلْأَرْضِ : أَنْبِتِي ثَمَرَتَكِ ، وَرُدِّي بَرَكَتَكِ . . . فَبَيْنَمَا هُمْ كَذَلِكَ إِذْ بَعَثَ اللَّهُ رِيحًا طَيِّبَةً فَتَأْخُذُهُمْ تَحْتَ آبَاطِهِمْ فَتَقْبِضُ رُوحَ كُلِّ مُؤْمِنٍ وَكُلِّ مُسْلِمٍ ، وَيَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ يَتَهَارَجُونَ فِيهَا تَهَارُجَ الْحُمُرِ ، فَعَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ) .
يَتَهَارَجُونَ تَهَارُج الْحُمُر أَيْ : يُجَامِع الرِّجَال النِّسَاء بِحَضْرَةِ النَّاس كَمَا يَفْعَل الْحَمِير".
وينظر ما سبق في جواب السؤال رقم : (289776)، (259634).
ثانيًا :
من يموت من الخلق بنفخة الصعق؟
نفخة الصعق : "يَمُوتُ بِسَبَبِهَا جَمِيعُ الْمَوْجُودِينَ مِنْ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ، مِنَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ وَالْمَلَائِكَةِ; إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ، فَقِيلَ: هُمْ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، وَجِبْرِيلُ، وَمِيكَائِيلُ، وَإِسْرَافِيلُ، وَمَلَكُ الْمَوْتِ. وَقِيلَ: هُمُ الشُّهَدَاءُ.
وَقِيلَ غَيْرُ ذَلِكَ.
قَالَ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ الزمر/68، وَقَالَ تَعَالَى: فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً الحاقة/13 إِلَى قَوْلِهِ: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ الحاقة/18.
[الْحَاقَّةِ: 13 - 18]"، انتهى ، البداية والنهاية ط. هجر: (19/ 334).
والأقرب أن: الموت يعم جميع الأحياء من أهل السموات والأرض إلا من شاء الله، ويكون آخرهم موتًا ملك الموت .
قال "ابن كثير" : " يقول تعالى مخبرا عن هول يوم القيامة، وما يكون فيه من الآيات العظيمة والزلازل الهائلة، فقوله: ونفخ في الصور فصعق من في السموات ومن في الأرض إلا من شاء الله ، هذه النفخة هي الثانية، وهي نفخة الصعق، وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السموات والأرض، إلا من شاء الله كما هو مصرح به مفسرا في حديث الصور المشهور.
ثم يقبض أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت، وينفرد الحي القيوم الذي كان أولا، وهو الباقي آخرا بالديمومة والبقاء، ويقول: لمن الملك اليوم [غافر:16] ثلاث مرات. ثم يجيب نفسه بنفسه فيقول: لله الواحد القهار؛ أي: الذي هو واحد وقد قهر كل شيء، وحكم بالفناء على كل شيء.
ثم يحيي أول من يحيي إسرافيل، ويأمره أن ينفخ في الصور أخرى، وهي النفخة الثالثة نفخة البعث، قال تعالى: ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون أي: أحياء بعد ما كانوا عظاما ورفاتا، صاروا أحياء ينظرون إلى أهوال يوم القيامة، كما قال تعالى: فإنما هي زجرة واحدة فإذا هم بالساهرة [النازعات:14، 13] ، وقال تعالى: يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده وتظنون إن لبثتم إلا قليلا [الإسراء:52] ، وقال تعالى: ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون [الروم:25]" ، انتهى من تفسير ابن كثير (7/ 116).
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم:(96306).
ثالثا:
هل هناك ترتيب فيمن يصعق أولا عند النفخ في الصور؟
قَالَ تَعَالَى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ الزمر/68.
وفي هذه الآية ذكر الله تعالى صعق أهل السموات ، وصعق أهل الأرض ، وذكرهما على هذا النحو المرتب ؛ فأشكل ذلك على السائل، واعتقد منه أن الترتيب "الذكري" ، يلزم منه الترتيب الوجودي؛ وما دام أن جملة "صعق من في السموات" ذكرت قبل "ومن في الأرض"، فلازم ذلك: أن صعق أهل السموات، سوف يكون قبل صعق أهل الأرض، ومن هنا رتب ما ذكره من الأسئلة: من سيقبض أرواح أهل الأرض، بعد صعق أهل السموات، وهل، وهل ..؟
وهذا كله توهم لا موجب له من اللفظ، ولا دليل عليه ؛ فمن المعلوم أن الترتيب في الذكر، لا يلزم منه الترتيب في الوجود، وأن حرف العطف الوارد في الآية (الواو) : لا تقتضي ترتيبا بين المتعاطفات، ولا تراخيا؛ بل هي لمطلق العطف.
قال الله تعالى: ( كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ) الشوري/3 ؛ ومن المعلوم الواضح: أن الله تعالى قد أوحى إلى الأنبياء السابقين ـ وهم الذين من قبل نبينا محمد، صلوات الله عليهم أجمعين ـ قبل أن يوحي إلى نبيه محمد ، ومع ذلك في الآية ذكره وحيه إليه ، قبل أن يذكر الذين من قبله.
قال المرادي: " (الواو) عند المحققين لمطلق الجمع، لا لترتيب، ولا معيّة، فيعطف بها لاحق في الحكم، كجاء زيد وعمرو بعده، وسابق، كجاء زيد وعمرو قبله، ومصاحب موافق للمتبوع في زمن حصول الاشتراك، كجاء زيد وعمرو معه"، انتهى من "شرح ألفية ابن مالك" (2/500).
وبهذا التقرير: يسقط كل ما بناه السائل من أسئلة على هذا التوهم المحض.
وأما قوله: إن أهل السموات أقرب إلى إسرافيل، ونفخته، وبناء على ذلك : يصعقون قبل أهل الأرض: فهو تكلف محض، وقول على الله بغير علم ؛ فأمور الغيب لا قياس فيه ، ولا يدقق أمرها بتوهمات العقول والأفكار، إنما مرد القول فيها إلى ما جاء به الوحي الصادق، وما لم يأت فيه وحي، وجب الكف والإمساك عن القول فيه ، وتكلف الخوض في شأنه؛ لا سيما والأمر من مبتدئه إلى منتهاه: تخرصات، وتكلفات، لا معنى لها ، ولا يترتب عليها شيء من عمل، ولا يحوز العبد بتكلفها فضيلة في دين، ولا دنيا!!
ثالثًا :
المستثنى من الصعق في قوله تعالى: (إلا ما شاء الله)؟
وأمَّا المستثنى في قوله تعالى : وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ [الزمر: 68] ، فقد اختلف العلماء فيه على أقوال :
قال القرطبي في" التذكرة بأحوال الموتى وأمور الآخرة" (ص: 454):
" واختلف العلماء في المستثنى: من هو؟
فقيل الملائكة.
وقيل الأنبياء.
وقيل الشهداء، واختاره الحليمي قال: وهو مروي عن ابن عباس أن الاستتثناء لأجل الشهداء.
فإن الله تعالى يقول: أحياء عند ربهم يرزقون وضعف غيره من الأقوال .. وقال شيخنا أبو العباس: والصحيح أنه لم يرد في تعيينهم خبر صحيح، والكل محتمل" ، انتهى .
وقال ابن القيم : "قد قال تعالى: وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ [الزمر: 68]؛ فقد استثنى الله سبحانه بعضَ من في السموات ومن في الأرض من هذا الصَّعق.
فقيل: هم الشهداء. هذا قول أبي هريرة، وابن عباس، وسعيد بن جُبير.
وقيل: هم جبرائيل وميكائيل وإسرافيل وملَك الموت. وهذا قول مقاتل وغيره.
وقيل: هم الذين في الجنةِ من الحور العين وغيرهم ومَن في النار من أهلِ العذاب وخَزَنتها. قاله أبو إسحاق بن شاقلا من أصحابنا.
وقد نصَّ الإمام أحمد على أنَّ الحورَ العين والوِلدان لا يمُتْنَ عند النفخ في الصو»، انتهى من
"الروح"(1/ 99).
والذي يظهر، والله أعلم: أن الراجح في الاستثناء المذكور في الآية: "أنه متناول لمن في الجنة من الحور العين إذ الجنة لا موت فيها، وإنما هي دار خلود وبقاء، كما أنه يتناول غيرهم وليس في إمكان أحد أن يقطع بكل من استثناه الله، فلا يمكننا أن نجزم بذلك، فيصير هذا مثل العلم بقرب الساعة، وأعيان الأنبياء، وغير ذلك مما لم يرد فيه خبر عن الشارع، إذ هذا الأمر لا تتم معرفته إلا عن طريق خبر الشارع وهذا اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله".
انظر: "مباحث العقيدة في سورة الزمر" (ص/562).
والله أعلم.