عنوان الفتوى : هل يصح القول بأن التجويد صفة كلام الله عز وجل؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

سمعت من أحد المشايخ في شرحه لمتن تحفة الأطفال في علم التجويد وقواعده يقول في واضع هذا العلم - علم التجويد-: "وحي من عند الله لأنه صفة كلامه عز وجل، ومن الناحية العملية الرسول صلى الله عليه وسلم، لأنه تلقاه مجودا من جبريل عليه الصلاة والسلام وتلقته الصحابة منه كذلك وهكذا إلى أن وصل إلينا مجودا. وأما واضعه من حيث قواعده فقيل أبو الأسود الدؤلي وقيل أبو عبيد القاسم بن سلام وقيل الخليل بن أحمد الفراهيدي وقيل غيرهم" سؤالي هو: هل يصح القول بأن التجويد صفة كلام الله عز وجل؟ وإذا كان الجواب نعم ماهو دليل ذلك؟

مدة قراءة الإجابة : 10 دقائق

الحمد لله.

أولًا:

تعريف التجويد

التجويد هو: "إعطاء الحروف حقوقها وترتيبها مراتبها، ورد الحرف إلى مخرجه وأصله، وإلحاقه بنظيره وشكله، وتصحيح لفظه وتلطيف النطق به على حال صيغته وكمال هيئته من غير إسراف ولا تعسف ولا إفراط ولا تكلف. وهو حلية التلاوة وزينة القراءة ". 

انظر: "التحديد" للداني: (70)، "التمهيد"، لابن الجزري: (59)، "الوجيز في حكم تجويد الكتاب العزيز"، د. محمد سيدي الأمين: (13).

ثانيًا:

نزول القرآن بلسان عربي مبين

نزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم بلسان عربي مبين، كما قال سبحانه: إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ يوسف/2.

وقال: نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ سورة الشعراء.

وقال: وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ فصلت/ 44.

وللعرب طريقتهم في أداء الكلمات، وبهذه الطريقة، أو الطرق المختلفة، نزل القرآن ليُقرأ بتيسير الله، حسب لهجاتهم، فمن العرب من يميل، ومنهم من يفتح، ومنهم من يهمز، ومنهم من يترك الهمز، وهكذا.

وقد أخذ الصحابة التلاوة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعرضوا عليه القرآن، وقد قرأ النبي صلى الله عليه وسلم القرآن على جبريل عليه السلام، وعرضه جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والأصل في هذا الأخذ والتلقي والعرض: أن يكون بالتجويد، قال ابن الجزري:

لأنه به الإله أنزلا... وهكذا منه إلينا وصلا

"فالضمير في (لأنه): عائد إلى القرآن. وفي (به) يعود على التجويد؛ أي: أن الله أنزل القرآن بالتجويد. وهذا ما يجب أن يفهمه كل من تدبر وعقل النصوص، واستنبط منها ما يليق بكمال الله وجلاله، في ذاته وأسمائه وصفاته، فله الكمال المطلق سبحانه.

فالقرآن أكمل الكتب، نزل بأكمل الهيئات، على أفضل الرسل، لخير أمة أخرجت للناس، ثم نقله الصحابة كما عُلّموا، فلم يغيروا ولم يبدّلوا، وتناقلته الأمة بعدهم جيلاً بعد جيل، على تلك الكيفية التي نزل بها، فغاصوا في معانيه، وحافظوا على مبانيه، وعملوا بما فيه؛ فكان الأخذ بالتجويد سمة القراء المتقنين، ومنهج الأئمة المسندين، ومضماراً للمتنافسين"، "الوجيز في حكم تجويد الكتاب العزيز"، د. محمد سيدي الأمين: (18 - 19).

وانظر في نشأة علم التجويد، "التجويد الميسر" غانم قدوري: (ص/16).

ثالثًا:

نشأة علم التجويد ومسائله

علم التجويد ومسائله منها ما هو متلقى من العربية، أو من القراءة عن الشيوخ بأسانيدهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم. 

فأما من حيث أصوله الكبرى: فقد تلقاه الرسول عن جبريل عليه السلام، وهو من هذه الجهة متلقى عن الرسول صلى الله عليه وسلم.

لكن بعض مسائله دخلها الاجتهاد والاختيار؛ فلا يصح إضافته للوحي، في كل جزئياته، لأجل ذلك.

قال ابن قدامة رحمه الله: "ويقرأ بما في مصحف عثمان. 

ونقل عن أحمد: أنه كان يختار قراءة نافع من طريق إسماعيل بن جعفر. قال: فإن لم يكن فقراءة عاصم، من طريق أبي بكر بن عياش. وأثنى على قراءة أبي عمرو بن العلاء. 

ولم يكره قراءة أحد من العشر، إلا قراءة حمزة والكسائي؛ لما فيها من الكسر والإدغام، والتكلف، وزيادة المد.

وروي عن زيد بن ثابت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: نزل القرآن بالتفخيم وعن ابن عباس قال: أنزل القرآن بالتفخيم والتثقيل، نحو الجمعة وأشباه ذلك، ونقل عنه التسهيل في ذلك، وأن قراءتهما في الصلاة جائزة. قال الأثرم: قلت لأبي عبد الله: إمام كان يصلي بقراءة حمزة أصلي خلفه؟ قال: لا يبلغ به هذا كله، ولكنها لا تعجبني قراءة حمزة." انتهى من "المغني" (1/292). 

ولأجل ما ذكرناه: أن ما زاد على أصل الأداء، هو مما يدخله الاجتهاد، ويتفاوت فيه القراء، أنكر غير واحد من السلف على حمزة طريقته في الأداء، كما سبق في كلام الإمام أحمد. 

وقال ابن داود في كتاب "الشريعة": حدثنا عبد الله بن محمد بن النعمان، حدثنا ابن أبي بزة، سمعت سفيان بن عيينة يقول: لو صليت خلف من يقرأ بقراءة حمزة، لأعدت.

وثبت مثل هذا عن ابن مهدي، وعن حماد بن زيد نحوه.

وقال محمد بن عبد الله الحويطبي: سمعت أبا بكر بن عياش يقول: قراءة حمزة بدعة.

نقل الذهبي ذلك كله، ثم عقب عليه بقوله: 

"قلت: مرادهم بذلك: ما كان من قبيل الأداء، كالسكت، والاجتماع في نحو: شاء، وجاء، وتغيير الهمز، لا ما في قراءته من الحروف، هذا الذي يظهر لي، فإن الرجل حجة، ثقة فيما ينقل" انتهى من "سير أعلام النبلاء" (8/473). 

فدل ذلك على أن الإمام الذهبي رحمه الله، وإمام في القراءة، متحقق بالفن: يقول: إن نقل "الحروف" والكلمات: أمر توقيفي، لا يدخله الاجتهاد، ويعتمد على ثقة القارئ، وهذا واضح، لا ريب فيه. 

وأما ما زاد على ذلك، من تفاصيل المدود، والسكت، ونحوها: فهو مما يدخله الاجتهاد، وتتفاوت فيه مسالك القراء. 

رابعا: 

هل التجويد صفة كلام الله تعالى؟

قولهم في التجويد: إنه صفة كلام الله تعالى؛ يقال فيه: هذا كلام مجمل، ويحتاج إلى بيان.

فأما صفات الله تعالى، ومنها كلامه كله، وقرآنه الذي أنزله على عباده: فهي كلها غير مخلوقة، ولا أول لكلمات الله تعالى، ولا منتهى لها.

ولأجل ما تقرر، وأجمع عليه أهل السنة من أن صفات الله تعالى غير مخلوقة، أجمعوا أيضا على أن القرآن كلام الله غير مخلوق؛ لأنه كلامه صفة من صفاته.

وأما (التجويد): فهو فعل العبد، مأخوذ من (التحسين)؛ فالتجويد تحسين العبد في أدائه، وتلاوته لكلام الله جل جلاله، فهو "طريقة" التالي في أداء كلام الله، وفعله في "قراءته"، و"تلاوته"، وأفعال العباد كلها مخلوقة، تلاوتهم، وذكرهم، وقراءتهم؛ قال الله تعالى: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ الصافات/ 96.

فهاهنا أمران ينبغي التمييز بينهما:

الأول: كلام الله جل وعلا، الذي تكلم به ابتداء، وسمعه منه جبريل عليه السلام، ونقله إلينا النبي صلى الله عليه وسلم: فهذا صفة الله، غير مخلوقة، بحروفه، وكلماته، وكذا صوته الذي تكلم الله به ابتداء، وسمعه منه جبريل عليه السلام.

فهذا كله: كلام الله غير مخلوق منه شيء، كيفما كتب، أو تلي، أو سمع.

والثاني: عمل العبد، الذي هو الوعاء الذي يحمل به كلام الله، فيكتبه في كتاب، ويقرؤه، ويسمعه، وكل ما كان من العبد وعمله: فهو مخلوق.

فيد العبد مخلوقة، والمداد الذي يكتب به: مخلوق، والأوراق التي يكتب فيها: مخلوقة، ولسان العبد: مخلوق، وصوته الخاص به: مخلوق؛ وكل هذه أوعية، يحمل بها العباد كلام الله، وينقلونه، ويبلغونه".

كما سبق بيانه في جواب (القرآن كلام الله تعالى غير مخلوق).

وقال الإمام أحمد: "القلب مخلوق، والمحفوظ غير مخلوق."

قال ابن القيم في "مختصر الصواعق المرسلة" (515 - 516) في بيان حافل: "وَقَالَ إِبْرَاهِيمُ الْحَرْبِيُّ: كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ إِذْ جَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ عِنْدَنَا قَوْمًا يَقُولُونَ إِنَّ أَلْفَاظَهُمْ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقَةٌ؟

قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: يَتَوَجَّهُ الْعَبْدُ لِلَّهِ بِالْقُرْآنِ بِخَمْسَةِ أَوْجُهٍ، وَهُوَ فِيهَا غَيْرُ مَخْلُوقٍ: حِفْظٌ بِقَلْبٍ، وَتِلَاوَةٌ بِلِسَانٍ، وَسَمْعٌ بِأُذُنٍ، وَنَظْرَةٌ بِبَصَرٍ، وَخَطٌّ بِيَدٍ.

فَالْقَلْبُ مَخْلُوقٌ وَالْمَحْفُوظُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالتِّلَاوَةُ مَخْلُوقَةٌ وَالْمَتْلُوُّ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالسَّمْعُ مَخْلُوقٌ وَالْمَسْمُوعُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالنَّظَرُ مَخْلُوقٌ وَالْمَنْظُورُ إِلَيْهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَالْكِتَابَةُ مَخْلُوقَةٌ وَالْمَكْتُوبُ غَيْرُ مَخْلُوقٍ.

قَالَ إِبْرَاهِيمُ: فَمَاتَ أَحْمَدُ فَرَأَيْتُهُ فِي النَّوْمِ وَعَلَيْهِ ثِيَابٌ خُضْرٌ وَبِيضٌ، وَعَلَى رَأْسِهِ تَاجٌ مِنَ الذَّهَبِ مُكَلَّلٌ بِالْجَوَاهِرِ وَفِي رِجْلَيْهِ نَعْلَانِ مِنْ ذَهَبٍ، فَقُلْتُ لَهُ: مَا فَعَلَ اللَّهُ بِكَ؟ قَالَ غَفَرَ لِي وَقَرَّبَنِي وَأَدْنَانِي، فَقَالَ: قَدْ غَفَرْتُ لَكَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا رَبِّ بِمَاذَا؟ قَالَ: بِقَوْلِكَ كَلَامِي غَيْرُ مَخْلُوقٍ.

فَفَرَّقَ أَحْمَدُ بَيْنَ فِعْلِ الْعَبْدِ وَكَسْبِهِ وَمَا قَامَ بِهِ، فَهُوَ مَخْلُوقٌ، وَبَيْنَ مَا تَعَلَّقَ بِهِ كَسْبُهُ وَهُوَ غَيْرُ مخلوق، وَمَنْ لَمْ يُفَرِّقْ هَذَا التَّفْرِيقَ، لَمْ يَسْتَقِرَّ لَهُ قَدَمٌ فِي الْحَقِّ.". انتهى

والله أعلم.