عنوان الفتوى : الترادف في القرآن والفرق بين الغضب والبغض

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

رأيت شخصا يعتقد أن كلمة البغض معناها الغضب الذي هو ضد الرضا، وذكر أنه سمعه من شيخه المتوفى، ومن ثم يفسر الكلمات: القلى، والبغضاء، والمقت، والشنآن المرادفة للبغض أو شدته بمعنى الغضب أو شدته، ويقول في قوله تعالى: (ماودعك ربك وماقلى) الضحى/٣، (وماقلى) وماغضب عليك ربك، وقوله تعالى: (ولا يجرمنكم شنآن قوم) المائدة/٢، (شنآن قوم) غضب قوم، وقوله تعالى: (وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا) الممتحنة/٤، (والبغضاء أبدا) والغضب أبدا، وقوله تعالى: (كبر مقتا عندالله) الصف، (كبر مقتا) كبر غضبا، وفي الحديث (من أحب لله وأبغض لله..) (وأبغض لله) غضب لله. وقلت له: إن البغض معناه الكره والكراهة الذي هو ضد الحب لا الغضب، كما في المعاجم، مثل "معجم مختار الصحاح"، وإن (وما قلى) في الآية معناها ماكرهك ربك، وإن الكلمات المرادفة للبغض الواردة في القرآن والأحاديث وغيرهما معناها الكره أو شدته ضد الحب لا الغضب أيضا، وإن الشيخ مع صلاحه وكثرة علمه قد يخطئ، ولا يقبل أن نذهب إلى الأساتذة والعلماء ليفصلوا بيننا، وأعلم وجود فرق بين بعض الكلمات المرادفات في الاستعمال كما في كتاب "الفروق اللغوية" لأبي هلال العسكري وأمثاله، ولكن هدفي الإشارة إلى المقصود الأصلي، فهل هو على الصواب فأوافقه أم أنا؟ مع شرح البغض والغضب وذكر ضديهما؟

مدة قراءة الإجابة : 9 دقائق

الحمد لله.

أولًا:

فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون

لا شك أن من واجب طلبة العلم وعموم المسلمين الرجوع إلى أهل العلم فيما يُشْكل عليهم، وقد قال الله سبحانه: فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ النحل/ 43.

قال "السعدي" رحمه الله: في "تفسيره" (441): "وعموم هذه الآية فيها مدح أهل العلم، وأن أعلى أنواعه العلم بكتاب الله المنزل.

فإن الله أمر من لا يعلم بالرجوع إليهم في جميع الحوادث، وفي ضمنه تعديل لأهل العلم وتزكية لهم، حيث أمر بسؤالهم، وأن بذلك يخرج الجاهل من التبعة، فدل على أن الله ائتمنهم على وحيه وتنزيله، وأنهم مأمورون بتزكية أنفسهم، والاتصاف بصفات الكمال.

وأفضل أهل الذكر: أهل هذا القرآن العظيم، فإنهم أهل الذكر على الحقيقة، وأولى من غيرهم بهذا الاسم، ولهذا قال تعالى: وَأَنزلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ أي: القرآن الذي فيه ذكر ما يحتاج إليه العباد من أمور دينهم ودنياهم، الظاهرة والباطنة، لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نزلَ إِلَيْهِمْ، وهذا شامل لتبيين ألفاظه وتبيين معانيه، وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ فيه، فيستخرجون من كنوزه وعلومه بحسب استعدادهم وإقبالهم عليه". انتهى.

ثانيًا:

مفهوم الترادف في اللغة

الترادف هو الألفاظ المفردةُ الدالة على شيء واحد، باعتبارٍ واحد.

انظر: "المزهر" للسيوطي(1/ 316).

وصورة هذه القضية أن الترادف: هو توالي كلمتين فأكثر، للدلالة على شيء واحد، من حيثية واحدة. مثل: "البر" و"القمح" و"الحنطة"، فهذه ألفاظ مختلفة، تدل على شيء واحد معروف.

وعلامة صحة الترادف - عند القائلين به -: إمكان حلول أحد اللفظين محل الآخر، لو حذفت أحدهما.

ولعل من أعدل الأقوال في مسألة وجود الترادف في اللغة والقرآن ما ذكره "ابن تيمية" قائلًا: "إن الترادف في اللغة قليل، وأما في ألفاظ القرآن فإما نادر، وإما معدوم، وقلَّ أن يعبر عن لفظ واحد بلفظ واحد يؤدي جميع معناه؛ بل يكون فيه تقريب لمعناه، وهذا من أسباب إعجاز القرآن" انتهى من "مجموع الفتاوى"(13/ 341).

وقال "الزركشي": "على المفسر مراعاة مجاري الاستعمالات في الألفاظ التي يظن بها الترادف، والقطع بعدم الترادف ما أمكن، فإن للتركيب معنى غير معنى الإفراد، ولهذا منع كثير من الأصوليين وقوع أحد المترادفين موقع الآخر في التركيب، وإن اتفقوا على جوازه في الإفراد"، "البرهان"(4/78)، "الإتقان" (4/229).

انظر جواب السؤال رقم: (288185).

ثالثًا:

التفريق بين المعنى الإجمالي والتحليل للألفاظ

لا بد من التفريق بين أمرين:

الأول: المعنى الإجمالي، أو أصل المعنى؛ فهذا يُغتفر فيه التسامح في الألفاظ، ويكون بذكر معنى الآية جملةً دون تحليل للمفردات.

الثاني: التحليل للمفردات والألفاظ، فهذا مما ينبغي التدقيق فيه، وإيصال المعنى الدقيق لهذا اللفظ، والمراد به.

ولذلك، فإن تفسير صاحبك لكل هذه الألفاظ بكلمة واحدة، لا يسوغ في اللغة العلمية، بل ينبغي عليه أن يتحرى تفسير هذه الألفاظ بمعناها الحقيقي الدقيق.

ولا علاقة لكلامه بمبحث الترادف، سواء قلنا بإثباته أو نفيه؛ بل هو جهل وتخرص.

رابعًا:

لا ترادف بين البغض والغضب

هناك فرق بين البغض والغضب، فإن "البغض" ”عبارةٌ عن نفرة الطَّبع عن المؤْلِم المتْعِب، فإذا قوي يُسمَّى مَقْتًا." انتهى من"الكليات" (ص 398).

وضده: المحبة.

وأما الغضب فهو - في البشر - "غليانُ دم القلب، طلبًا لدفع المؤذي عند خشية وقوعه، أو طلبًا للانتقام ممن حصل له منه الأذى بعد وقوعه". "جامع العلوم والحكم" لابن رجب (1/ 396).

وضده: السكون، والهدوء، ونحوها.

وفي "تاج العروس" (4/ 2099): "لَا مُلَازمَة بَين البُغْضِ والغضَب، إِذ قد يُبغِض الإِنسانُ شخصًا وينْطَوِي على شَنَآنِه، من غير غَضب، كَمَا لَا يخفى"، انتهى.

فإذا كان هذا الإمام اللغوي المحقق يقرر أنه "لا ملازمة بين البغض، والغضب"؛ فكيف يكون الترادف؟! لا شك أنه أبعد وأشد امتناعا؛ فإن الشيئين قد يتلازمان، وإن لم يكن بينهما ترادف، ولا استواء في المعنى. 

خامسا:

استعمالات كلمتي الغضب والبغض في القرآن الكريم

ومن استعمالات الكلمة في القرآن الكريم:

الأول: مادة (الغضب) وردت في القرآن المجيد وصفًا لله تعالى، ووصفًا للخلق.

فمما جاء في صفة الله تعالى، قوله جل جلاله: بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ البقرة/90.

وقال تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا النساء/93.

وقال تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى طه/81.

ومن وصف الخلق قوله تعالى عن موسى: وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَالأعراف/ 150.

وقال تعالى عن سائر الخلق: وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ الشورى/37.

وفي تفسير الغضب ورد عن السلف: "وباؤ بغضب من الله يقول: استوجبوا سخطًا "، "تفسير ابن أبي حاتم" (1/ 126).

قال "ابن كثير" في "التفسير" (1/ 282): " وَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ قَالَ الضَّحَّاكُ: اسْتَحَقُّوا الْغَضَبَ مِنَ اللَّهِ، وَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ: فحدَثَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ. وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ يَقُولُ: اسْتَوْجَبُوا سُخْطًا "، انتهى.

الثاني: مادة (البغض)، وقد وردت وصفًا للخلق.

قال تعالى: يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ آل عمران/118.

وقال تعالى: إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ  المائدة/91.

قال "الراغب" في "المفردات" (136): " البُغْض: نفار النفس عن الشيء الذي ترغب عنه، وهو ضد الحبّ، فإنّ الحب انجذاب النفس إلى الشيء، الذي ترغب فيه.

يقال:

بَغُضَ الشيء بُغْضًا، وبَغَضْتُه بَغْضَاء. قال الله عز وجل: وَأَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَالمائدة/ 64، وقال: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَالْبَغْضاءَ المائدة/ 91 "، انتهى.

قال "الثعلبي" في تفسير قوله تعالى:(يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ) آل عمران/118.

" ومعنى الآية: قد ظهرت أمارة العداوة من أفواههم بالشتيمة والوقيعة في المسلمين " انتهى من "التفسير"(9/188).

وقال "مكي": " ظهرت بألسنتهم وهو إقامتهم على الكفر، أو النفاق، والذي تخفيه صدورهم من البغضاء والعداوة لكم مما بدا لكم بألسنتهم " انتهى من"التفسير" (2/ 1106).

فأنت ترى أن العلماء في تفسيرهم لمادة (الغضب) غير تفسيرهم لمادة (البغضاء).

ولا نعلم أن أحدا من العلم قال: إن معنى الكلمتين واحد، أو أنهما من قبيل المترادف. وقول هذا المذكور في السؤال: ليس له سند من لغة العرب، ولا من كلام أهل العلم، وإنما هي دعوة مجردة عن كل سند ودليل. 

والله أعلم.