عنوان الفتوى : أقوال العلماء فيمن حفظ القرآن ثم نسيه
لقد ذكر في فتوى رقم 233386 أن "نسيان القرآن من الذنوب" إذا كان نسيان القرآن من الذنوب أليس من الأفضل عدم حفظ القرآن وفعل أعمال صالحة أخرى بدل ذلك حتى لا يكون الشخص معرضا للذنب ولا يزيد على واجباته خصوصا إذا كان الشخص كسولا ويفعل واجباته الأخرى بصعوبة؟ وماذا يفعل من حفظ بعض الأجزاء وينسى كثيرا هل عليه التوقف عن الحفظ حتى لا يعرض نفسه للذنب أكثر من ذلك فكل إنسان لا بد له من ذنب ولو تاب من الذنوب لذلك لا يريد أن يكثر ذنوبه بإضافة هذا الذنب؟ و أيضا في فتوى رقم 19564 ذكر أنه "قد ذهب بعض العلماء إلى أن نسيان القرآن كبيرة من الكبائر. قال ذلك السيوطي والنووي وغيرهما. واستدلوا بأحاديث منها: عرضت علي ذنوب أمتي فلم أر ذنباً أعظم من سورة من القرآن أو آية أوتيها رجل ثم نسيها. وحديث: من قرأ القرآن ثم نسيه لقي الله يوم القيامة أجذم. وهما حديثان ضعيفان، والثاني أشد ضعفاً من الأول." فهل قول إن نسيان القرآن من الذنوب اتفق عليه العلماء وإن لم يكن ذلك متفقا عليه فهل يجوز الأخذ بقول من لم يعتبره ذنبا؟وجزاكم الله خيرا
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن حفظ القرآن مطلب عظيم ينبغي للمسلم الحرص عليه لأن حفظه كاملا فرض كفاية، والاشتغال بتلاوته وحفظه عند توفر الحفاظ من أفضل السنن العينية التي يستحب القيام بها، فقد جاء في الدر المختار للحصفكي: وحفظ جميع القرآن فرض كفاية، وسنة عين أفضل من التنفل. اهـ
وقد وردت نصوص كثيرة في فضل حفظه وتلاوته؛ كقوله تعالى: بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ {العنكبوت:49}، وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: خيركم من تعلم القرآن وعلمه. متفق عليه. وقوله - صلى الله عليه وسلم -: إن لله أهلين في الناس، قيل: من هم يا رسول الله؟ قال: أهل القرآن هم أهل الله وخاصته. رواه ابن ماجه وأحمد وغيرهما. وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم، وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه، وإكرام ذي السلطان المقسط. رواه أبو داود. وقول النبي صلى الله عليه وسلم: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله. متفق عليه. وقال صلى الله عليه وسلم: يقال لصاحب القرآن اقرأ وارتق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا، فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها. رواه أبو داود ، وصححه الألباني. قال في عون المعبود عند شرحه لهذا الحديث: ويؤخذ منه أنه لا ينال هذا الثواب الأعظم إلا من حفظ القرآن وأتقن أداءه وقراءته كما ينبغي له. اهـ
وبجودة الحفظ يكون العبد من الماهرين بالقرآن الذين قال عنهم النبي صلى الله عليه وسلم: الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة. متفق عليه. قال الإمام النووي ـ رحمه الله ـ في شرح مسلم: الماهر: الحاذق الكامل الحفظ الذي لا يتوقف ولا يشق عليه القراءة لجودة حفظه، وإتقانه.. اهـ
وحافظ القرآن يسهل عليه أن يقوم الليل به، فيشفع فيه القرآن يوم القيامة؛ لما في الحديث عن عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لا حسد إلا في اثنتين: رجل آتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وآناء النهار، ورجل أتاه الله مالا فهو ينفقه آناء الليل وآناء النهار . رواه البخاري ومسلم .. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم : الصيام والقرآن يشفعان للعبد يوم القيامة يقول الصيام: أي رب؛ إني منعته الطعام والشهوات بالنهار فشفعني فيه، يقول القرآن رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيشفعان. رواه أحمد والطبراني والحاكم، وصححه الألباني في صحيح الجامع. وروى الإمام أحمد وغيره عن بريدة رضي الله عنه قال: كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فسمعته يقول: تعلموا سورة البقرة، فإن أخذها بركة، وتركها حسرة، ولا يستطيعها البطلة ـ السحرةـ قال ثم مكث ساعة، ثم قال: تعلموا سورة البقرة وآل عمران، فإنهما الزهراوان، يظلان صاحبهما يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف، وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة حين ينشق عنه قبره كالرجل الشاحب فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأتك في الهواجر، وأسهرت ليلك، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة، فيعطى الملك بيمينه والخلد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويكسى والداه حلتين لا تقوم لهما الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذه؟ فيقال: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يقال له: اقرأ واصعد في درجة الجنة وغرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ هذَّا كان أو ترتيلا. والحديث حسنه الألباني والأرناؤوط. قال الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة: واعلم أن المراد بقوله: صاحب القرآن حافظه عن ظهر قلب على حد قوله صلى الله عليه وسلم: يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله. أي أحفظهم. فالتفاضل في درجات الجنة إنما هو على حسب الحفظ في الدنيا، وليس على حسب قراءته يومئذ واستكثاره منها، كما توهم بعضهم ففيه فضيلة ظاهرة لحافظ القرآن؛ لكن بشرط أن يكون حفظه لوجه الله تبارك وتعالى وليس للدنيا والدرهم والدينار، وإلا فقد قال صلى الله عليه وسلم: أكثر منافقي أمتي قراؤها. انتهى.
ومن فوائد حفظه ما يرجى لحافظه من الأمن من النار، ففي الحديث عن عقبة بن عامر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: لو جعل القرآن في إهاب، ثم ألقي في النار، ما احترق. أخرجه الدارمي في "سننه " وحسنه الألباني. قال ابن قتيبة في تأويل مختلف الحديث (ص: 290) : حدثني يزيد بن عمرو قال: سألت الأصمعي عن هذا الحديث، فقال: يعني لو جعل القرآن في إنسان ثم ألقي في النار، ما احترق. وأراد الأصمعي، أن من علمه الله تعالى القرآن من المسلمين وحفظه إياه، لم تحرقه النار يوم القيامة، إن ألقي فيها بالذنوب، كما قال أبو أمامة: "احفظوا القرآن، أو اقرءوا القرآن، ولا تغرنكم هذه المصاحف، فإن الله تعالى لا يعذب بالنار قلبا وعى القرآن" وجعل الجسم ظرفا للقرآن كالإهاب. اهـ
وأما الخوف من النسيان فعلاجه بالمراجعة وكثرة تعاهده لا بترك الحفظ وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بتعاهد القرآن في أكثر من حديث، فقال: تعاهدوا القرآن فو الذي نفسي بيده لهو أشد تفصيا من الإبل ;في عقلها. رواه البخاري. ولقوله صلى الله عليه وسلم: وإذا قام صاحب القرآن فقرأه بالليل والنهار ذكره، وإذا لم يقم به نسيه. رواه مسلم .
واعلم أن الوعيد في النسيان إنما فيما كان بسبب الإهمال والتفريط، وأما لو حصل النسيان بسبب مرض، أو ضعف ذاكرة، أو انشغال بكسب لا بد منه، فنرجو أن لا يكون الناسي آثما . وأما تعمد الإهمال المفضي للنسيان فلا خلاف في حرمته، وقد حمل بعض أهل العلم النسيان الوارد في بعض الآثار على الترك للعمل به، مع أن أغلب الآثار الواردة في النسيان ضعيفة، كما صرح بذلك الحافظ ابن حجر والشيخ الألباني والشيخ الأرناؤوط وغيرهما.
قال ابن حجر في الفتح: واختلف السلف في نسيان القرآن، فمنهم من جعل ذلك من الكبائر، وأخرج أبو عبيد من طريق الضحاك بن مزاحم موقوفا قال: ما من أحد تعلم القرآن ثم نسيه إلا بذنب أحدثه، لأن الله يقول: ( وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير )[الشورى:30]. ونسيان القرآن من أعظم المصائب، واحتجوا أيضا بما أخرجه أبو داود والترمذي من حديث أنس مرفوعا: عرضت علي ذنوب أمتي، فلم أرى ذنبا أعظم من سورة من القرآن أوتيها رجل ثم نسيها. في إسناده ضعف. وقد أخرج ابن أبي داود من وجه آخر مرسل نحوه، ولفظه: أعظم من حامل القرآن وتاركه. ومن طريق أبي العالية موقوفا: كنا نعد من أعظم الذنوب أن يعلم الرجل القرآن، ثم ينام عنه حتى ينساه. وإسناده جيد. ومن طريق ابن سيرين بإسناد صحيح: الذي ينسى القرآن كانوا يكرهونه، ويقولون فيه قولا شديدا. ولأبي داود عن سعد بن عبادة مرفوعا: من قرأ القرآن، ثم نسيه لقي الله وهو أجذم، وفي إسناده أيضا مقال. وقد قال به من الشافعية أبو المكارم والروياني، واحتج بأن الإعراض عن التلاوة يتسبب عنه نسيان القرآن، ونسيانه يدل على عدم الاعتناء به والتهاون بأمره. وقال القرطبي: من حفظ القرآن أو بعضه، فقد علت رتبته بالنسبة إلى من لم يحفظه، فإذا أخل بهذه الرتبة الدينية حتى تزحزح عنها ناسب أن يعاقب على ذلك، فإن ترك معاهدة القرآن يفضي إلى الرجوع إلى الجهل، والرجوع إلى الجهل بعد العلم شديد. انتهى كلام ابن حجر.
وقال الشوكاني في النيل : قوله : ( فلم أر ذنبا أعظم ) قال شارح المصابيح : أي من سائر الذنوب الصغائر؛ لأن نسيان القرآن من الحفظ ليس بذنب كبير إن لم يكن من استخفافه وقلة تعظيمه للقرآن , وإنما قال صلى الله عليه وسلم هذا التشديد العظيم تحريضا منه على مراعاة حفظ القرآن انتهى . والتقييد بالصغائر يحتاج إلى دليل. وقيل المراد بقوله : "نسيها" ترك العمل بها . ومنه قوله تعالى : { نسوا الله فنسيهم } وهو مجاز لا يصار إليه إلا لموجب. اهـ
وقال الرحيباني في مطالب أولي النهى : قال الإمام أحمد: ما أشد ما جاء فيمن حفظه ثم نسيه، قال أبو يوسف يعقوب صاحب الإمام أبي حنيفة ( في معنى حديث نسيان القرآن : المراد بالنسيان : أن لا يمكنه القراءة في المصحف ) , وهو من أحسن ما قيل في ذلك . ( ونقل ابن رشد المالكي الإجماع على أن من نسي القرآن لاشتغاله بعلم واجب أو مندوب , فهو غير مأثوم ) . .... اهـ
وفي فتاوى الرملي أنه سئل عمن نسي القرآن، هل يجب عليه حفظه أم لا ؟ فإن قلتم بوجوبه: فهل تركه كبيرة ؟ وهل يفرق بين البالغ وغيره ؟ ( فأجاب ) بأنه إن نسيه - وهو بالغ - تهاونا وتكاسلا كان نسيانه كبيرة ويجب عليه حفظه إن تمكن منه للخروج عن المعصية . اهـ
وفي فتاوى الهيتمي: أنه سئل - رضي الله عنه - بما لفظه: صرحوا بأن نسيان القرآن كبيرة فكيف ذلك مع خبر الصحيحين لا يقول أحدكم نسيت آية كذا وكذا, بل يقول نسيت، وخبرهما أنه سمع رجلا يقرأ فقال - رحمه الله - لقد أذكرني آية كنت أسقطتها، وما المراد بالنسيان وهل يعذر به إذا كان لاشتغاله بمعيشة عياله التي لا بد منها ؟ وهل يشمل ذلك نسيان الخط بأن كان يقرؤه غيبا , ومن المصحف فصار لا يقرؤه إلا غيبا وفي عكسه هل يحرم أيضا ؟ ( فأجاب ) بقوله لا تنافي بين الحديثين والحديث الدال على أن نسيان القرآن كبيرة، أما الأول: فلأن الأمر بأن يقول نسيت بتشديد السين أو أنسيت إنما هو لرعاية الأدب مع الله تعالى في إضافة الأشياء إليه ; لأنها منه بطريق الحقيقة خيرها وشرها , ونسبتها للعبد إنما هي من حيث الكسب والمباشرة، فأمرنا برعاية هذه القاعدة العظيمة النفع العزيزة الوقع التي ضل فيها المعتزلة ومن تبعهم كالزيدية , فليس في هذا الحديث أن النسيان كبيرة ولا أنه غير كبيرة كما اتضح مما قررته . وأما الثاني: فهو دليل على أن المراد بالنسيان المحرم أن يكون بحيث لا يمكنه معاودة حفظه الأول إلا بعد مزيد كلفة وتعب لذهابه عن حافظته بالكلية , وأما النسيان الذي يمكن معه التذكر بمجرد السماع أو إعمال الفكر فهذا سهو لا نسيان في الحقيقة فلا يكون محرما، وتأمل تعبيره صلى الله عليه وسلم بأسقطتها دون أنسيتها يظهر لك ما قلناه ولا يعذر به , وإن كان لاشتغاله بمعيشة ضرورية لأنه مع ذلك يمكنه المرور عليه بلسانه أو قلبه فلم يوجد في المعايش ما ينافي هذا المرور فلم يكن شيء منها عذرا في النسيان، نعم المرض المشغل ألمه للقلب واللسان والمضعف للحافظة عن أن يثبت فيها ما كان فيها لا يبعد أن يكون عذرا ; لأن النسيان الناشئ من ذلك لا يعد به مقصرا لأنه ليس باختياره , إذ الفرض أنه شغل قهرا عنه بما لم يمكنه معه تعهده، وقد علم مما قررته أن المدار في النسيان إنما هو على الإزالة عن القوة الحافظة بحيث صار لا يحفظه عن ظهر قلب كالصفة التي كان يحفظه عليها قبل . ونسيان الكتابة لا شيء فيه ولو نسيه عن الحفظ الذي كان عنده ولكنه يمكنه أن يقرأه في المصحف لم يمنع ذلك عنه إثم النسيان لأنا متعبدون بحفظه عن ظهر قلب , ومن ثم صرح الأئمة بأن حفظه كذلك فرض كفاية على الأمة , وأكثر الصحابة كانوا لا يكتبون وإنما يحفظونه عن ظهر قلب، وأجاب بعضهم عن الحديث الثاني بأن نسيان مثل الآية أو الآيتين لا عن قصد لا يخلو منه إلا النادر، وإنما المراد نسيان ينسب فيه إلى تقصير , وهذا غفلة عما قررته من الفرق بين النسيان والإسقاط , فالنسيان بالمعنى الذي ذكرته حرام بل كبيرة ولو لآية منه كما صرحوا به , بل ولو لحرف كما جزمت به في شرح الإرشاد وغيره لأنه متى وصل به النسيان ولو للحرف إلى أن صار يحتاج في تذكره إلى عمل وتكرير فهو مقصر آثم , ومتى لم يصل إلى ذلك بل يتذكره بأدنى تذكير فليس بمقصر، وهذا هو الذي قل من يخلو عنه من حفاظ القرآن ; فسومح به، وما قدمته من حرمة النسيان وإن أمكن معه القراءة من المصحف نقله بعضهم عن جماعة من محققي العلماء وهو ظاهر جلي والله أعلم بالصواب . اهـ
وقال الهيتمي أيضا في الزواجر : قال الجلال البلقيني والزركشي وغيرهما : محل كون نسيانه كبيرة عند من قال به إذا كان عن تكاسل وتهاون . انتهى. وكأنه احترز بذلك عما لو اشتغل عنه بنحو إغماء أو مرض مانع له من القراءة وغيرهما من كل ما لا يتأتى معه القراءة, وعدم التأثيم بالنسيان حينئذ واضح لأنه مغلوب عليه لا اختيار له فيه بوجه؛ بخلاف ما إذا اشتغل عنه بما يمكنه القراءة معه, وإن كان ما اشتغل به أهم وآكد كتعلم العلم العيني لأنه ليس من شأن تعلمه الاشتغال به عن القرآن المحفوظ حتى نسي, ويؤخذ من قولهم: إن نسيان آية منه كبيرة أيضاً أنه يجب على من حفظه بصفة من إتقان أو توسط أو غيرهما كأن كان يتوقف فيه أو يكثر غلطه فيه أن يستمر على تلك الصفة التي حفظه عليها فلا يحرم عليه إلا نقصها من حافظته, أما زيادتها على ما كان في حافظته فهو وإن كان أمرا مؤكدا ينبغي الاعتناء به لمزيد فضله إلا أن عدمه لا يوجب إثما .
وحمل أبو شامة شيخ النووي وتلميذ ابن الصلاح الأحاديث في ذم نسيان القرآن على ترك العمل, لأن النسيان هو الترك؛ لقوله تعالى: ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي. قال : وللقرآن يوم القيامة حالتان : إحداهما : الشفاعة لمن قرأه ولم ينس العمل به . والثانية : الشكاية على من نسيه : أي تركه تهاونا به ولم يعمل بما فيه , قال : ولا يبعد أن يكون من تهاون به حتى نسي تلاوته كذلك. انتهى . وهذا الذي زعم أنه لا يبعد هو المتبادر من النسيان الواقع في الأحاديث السابقة فهو المراد منها خلافا لما زعمه . وسيأتي في حديث البخاري في كتاب الصلاة تشديد عظيم وعذاب أليم لمن أخذ القرآن ثم رفضه ونام عن الصلاة المكتوبة , وهذا ظاهر في النسيان أيضا . ومنها : قال القرطبي : لا يقال حفظ جميع القرآن ليس واجبا على الأعيان , فكيف يذم من تغافل عن حفظه ؟ لأنا نقول : من جمعه فقد علت رتبته وشرف في نفسه وقومه , وكيف لا ؟ ومن حفظه فقد أدرجت النبوة بين جنبيه , وصار ممن يقال : فيه هو من أهل الله وخاصته , فإذا كان كذلك فمن المناسب تغليظ العقوبة على من أخل بمرتبته الدينية , ومؤاخذته بما لا يؤاخذ به غيره , وترك معاهدة القرآن يؤدي إلى الجهالة. انتهى .
وفي مجموع فتاوى ابن باز (6/ 291) أنه أجاب من سأله فقال : إنني كثيرا ما أحفظ آيات من القرآن الكريم، ولكن بعد فترة أنساها، وكذلك عندما أقرأ آية لا أعلم هل قراءتي صحيحة أم لا ؟ ثم أكتشف بعد ذلك أنني كنت مخطئا، دلوني لو تكرمتم. فقال في الجواب : المشروع لك يا أخي أن تجتهد في حفظ ما تيسر من كتاب الله، وأن تقرأ على بعض الإخوة الطيبين في المدارس أو في المساجد أو في البيت، وتحرص على ذلك، حتى يصححوا لك قراءتك، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «خيركم من تعلم القرآن وعلمه » رواه البخاري رحمه الله في صحيحه، فخيار الناس هم أهل القرآن الذين تعلموه وعلموه الناس، وعملوا به. ولقول النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه: «أيحب أحدكم أن يذهب إلى بطحان فيأتي بناقتين عظيمتين في غير إثم ولا قطيعة رحم » فقالوا: يا رسول الله: كلنا يحب ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: «لأن يغدو أحدكم إلى المسجد فيتعلم آيتين من كتاب الله خير له من ناقتين عظيمتين، وثلاث خير من ثلاث، وأربع خير من أربع، ومن أعدادهن من الإبل » أو كما قال عليه الصلاة والسلام. وهذا يبين لنا فضل تعلم القرآن الكريم، فأنت يا أخي عليك بتعلم القرآن على الإخوان المعروفين بإجادة قراءة القرآن حتى تستفيد وتقرأ قراءة صحيحة. أما ما يعرض لك من النسيان فلا حرج عليك في ذلك، فكل إنسان ينسى، كما قال عليه الصلاة والسلام: «إنما أنا بشر مثلكم أنسى كما تنسون » وسمع مرة قارئا يقرأ فقال: «رحم الله فلانا لقد أذكرني آية كذا كنت أسقطتها » أي أنسيتها، والمقصود أن الإنسان قد ينسى بعض الآيات ثم يذكر، أو يذكره غيره، والأفضل أن يقول (نسيت) بضم النون وتشديد السين، أو: أنسيت، لما ورد أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا يقولن أحدكم نسيت آية كذا بل هو نسي » يعني أنساه الشيطان، أما حديث: «من حفظ القرآن ثم نسيه لقي الله وهو أجذم » فهو حديث ضعيف عند أهل العلم لا يثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم، والنسيان ليس باختيار الإنسان وليس في طوقه السلامة منه، والمقصود أن المشروع لك حفظ ما تيسر من كتاب الله عز وجل، وتعاهد ذلك، وقراءته على من يجيد القراءة حتى يصحح لك أخطاءك. وفقك الله ويسر أمرك. اهـ
والله أعلم.