عنوان الفتوى : الفرق بين المال المحرم لذاته والمحرم لطريقة كسبه
هل فلوس التماثيل الفرعونية محرمة العين، أو محرمة الكسب؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فلا ندري مقصد السائل من هذا السؤال، ولعله يريد التفريق بين المال المحرم لذاته، وبين المال المحرم بسبب طريقة كسبه. حيث فرق بعض أهل العلم بينهما، فلم يحكم بحرمة النوع الثاني إلا على مكتسِبه وحده، وأما من اكتسبه منه بطريق مباحة، فلا يحرم عليه، كما قال الشيخ ابن عثيمين في تفسير سورة البقرة: الخبيث نوعان: خبيث لذاته؛ وخبيث لكسبه.
فالخبيث لذاته: كالميتة، والخنزير، والخمر، وما أشبهها، كما قال الله تعالى: {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرمًا على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دمًا مسفوحًا أو لحم خنزير فإنه رجس} [الأنعام:145] أي: نجس خبيث؛ وهذا محرم لذاته؛ محرم على جميع الناس.
وأما الخبيث لكسبه: فمثل المأخوذ عن طريق الغش، أو عن طريق الربا، أو عن طريق الكذب، وما أشبه ذلك؛ وهذا محرم على مكتسِبه، وليس محرمًا على غيره إذا اكتسبه منه بطريق مباح؛ ويدل لذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعامل اليهود، مع أنهم كانوا يأكلون السحت، ويأخذون الربا، فدلّ ذلك على أنه لا يحرم على غير الكاسب. اهـ.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: الخبائث نوعان:
ما خبثه لعينه، لمعنى قام به، كالدم، والميتة، ولحم الخنزير.
وما خبثه لكسبه، كالمأخوذ ظلمًا، أو بعقد محرم، كالربا، والميسر. اهـ.
وإذا كان هذا هو المقصود، فبيع التماثيل -الفرعونية، وغيرها- حرام، وثمنها خبيث محرم على آخذه، لا يحل له الانتفاع به، فعن جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح، وهو بمكة: إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام. رواه الشيخان.
قال ابن بطال في شرح صحيح البخاري: أجمعت الأمة على أنه لا يجوز بيع الميتة، والأصنام؛ لأنه لا يحل الانتفاع بهما، فوضع الثمن فيهما إضاعة للمال، وقد نهى النبي عن إضاعة المال. اهـ.
وقال الخطابي في أعلام الحديث: أما بيع الأصنام، فإنه فاسد ما دامت صُوَرًا مُصوّرة، فإذا طُمِست صُورها، ومُحِقَت، فإن بيع أجزائها، أو أصولها المعمولة منها -فِضّةً كانت، أو حديدًا، أو خَشَبًا، أو مَدَرًا- جائز. ويدخل في النّهي عنه كل صورة مصوّرة في رَقّ، أو قِرطاس، أو نحوهما مما يكون المقصود منه الصورة. اهـ.
وقال في معالم السنن: وفي تحريمه ثمن الأصنام، دليل على تحريم بيع جميع الصور المتخذة من الطين، والخشب، والحديد، والذهب، والفضة، وما أشبه ذلك من اللعب، ونحوها. اهـ.
وقال السرخسي في المبسوط عند قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ [المائدة:90] قال: الميسر القمار، والأنصاب ذبائحهم باسم آلهتهم في أعيادهم، والأزلام القداح، واحدها زلم، كقولك: قلم وأقلام ... وبين الله تعالى أن كل ذلك رجس، والرجس ما هو محرم العين، وإنه من عمل الشيطان، يعني أن من لا ينتهي عنه متابع للشيطان، مجانب لما فيه رضا الرحمن. اهـ.
وقال ابن رجب في جامع العلوم والحكم: فالحاصل من هذه الأحاديث كلها، أن ما حرم الله الانتفاع به، فإنه يحرم بيعه، وأكل ثمنه، كما جاء مصرحًا به في الرواية المتقدمة: «إن الله إذا حرم شيئًا، حرم ثمنه» وهذه كلمة عامة، جامعة تطرد في كل ما كان المقصود من الانتفاع به حرامًا، وهو قسمان:
أحدهما: ما كان الانتفاع به حاصلًا مع بقاء عينه، كالأصنام، فإن منفعتها المقصودة منها الشرك بالله، وهو أعظم المعاصي على الإطلاق، ويلتحق بذلك ما كانت منفعته محرمة، ككتب الشرك، والسحر، والبدع، والضلال، وكذلك الصور المحرمة. اهـ.
وجاء في الموسوعة الفقهية: ما يحرم اقتناؤه واستعماله، فلا يصح شراؤه، ولا بيعه، ولا هبته، ولا إيداعه، ولا رهنه، ولا الإجارة على حفظه، ولا وقفه، ولا الوصية به، كسائر المحرمات. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إن الله ورسوله حرم بيع الخمر، والميتة، والخنزير، والأصنام". ومن أخذ على شيء من ذلك ثمنًا، أو أجرة، فهو كسب خبيث، يلزمه التصدق به.
قال ابن تيمية: ولا يعاد إلى صاحبه؛ لأنه قد استوفى العوض، كما نص عليه الإمام أحمد في مثل حامل الخمر، ونص عليه أصحاب مالك، وغيرهم. اهـ.
والله أعلم.