عنوان الفتوى : هل ورد عن النبي عليه الصلاة والسلام أنه صلى التراويح من بعد العشاء إلى الفجر
هل صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أو السلف أنهم صلوا التراويح طوال الليل؟ أي من بعد صلاة العشاء إلى الفجر؟
الحمد لله.
أولا:
هل كان رسول الله يصلي التراويح من بعد العشاء إلى الفجر؟
لم يُنقل عن النبي صلى الله عليه وسلم نقلا صريحا أنه صلى التراويح من بعد العشاء إلى الفجر.
ولم يكن من هديه صلى الله عليه وسلم أن يقوم الليل كله، لا في رمضان ولا في غيره، بل إنه كان يقوم وينام، وكان هديه صلى الله عليه وسلم أحسن الهدي .
وكان من هديه صلى الله عليه وسلم ألا يزيد في رمضان ولا في غيره على إحدى عشرة ركعة، فعن عائشة رضي الله عنها قالت: ( مَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَزِيدُ فِي رَمَضَانَ وَلَا فِي غَيْرِهِ عَلَى إِحْدَى عَشْرَةَ رَكْعَةً يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا فَلَا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا قَالَتْ عَائِشَةُ فَقُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَنَامُ قَبْلَ أَنْ تُوتِرَ فَقَالَ يَا عَائِشَةُ إِنَّ عَيْنَيَّ تَنَامَانِ وَلَا يَنَامُ قَلْبِي ) رواه البخاري(1147) ومسلم (738).
وبيَّن صلى الله عليه وسلم أن أفضل الصلاة صلاة داود عليه السلام، وقد كان داود لا يقوم إلا ثلث الليل فقط ؛ فعن عبد اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو رضي الله عنهما قَالَ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَأَحَبُّ الصَّلَاةِ إِلَى اللَّهِ صَلَاةُ دَاوُدَ: كَانَ يَنَامُ نِصْفَ اللَّيْلِ، وَيَقُومُ ثُلُثَهُ، وَيَنَامُ سُدُسَهُ) رواه البخاري (3420)، ومسلم(1159) .
وقد وردت بعض الأحاديث تدل بظاهرها أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بعض الليالي إلى قريب من طلوع الفجر لاسيما في العشر الأواخر من رمضان، فقد (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحيي فيها ليله)، كما قالت عائشة رضي الله عنها . رواه البخاري (2024) ومسلم (1174) .
وروى أبو داود (1375) عن أبي ذر رضي الله عنه أنه ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بهم في صلاة التراويح ثلاث ليالٍ، وأنه أطال الصلاة في الليلة الثالثة حتى قال أبو ذر: (حتى كاد يفوتنا الفلاح . أي: السحور) . صححه الألباني في "صحيح أبي داود" .
ثانيا:
توجيه ما ورد عن السلف من قيامهم أكثر الليل
روى عبد الرازق في "المصنف" (4/261): عن السائب بن يزيد: "أَنَّ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ جَمَعَ النَّاسَ فِي رَمَضَانَ عَلَى أُبَيِّ بنِ كَعبٍ وَعَلَى تَمِيمٍ الدَّارِيِّ عَلَى إِحدَى وَعِشرِينَ رَكعَةً، يَقرَؤُونَ بِالمِئِينَ، وَيَنصَرِفُونَ عِندَ فُرُوعِ الفَجرِ" .
وينظر جواب السؤال رقم:(82152).
وروى أبو داود في كتاب "الزهد" (379) عَنْ مَسْرُوقٍ، قَالَ: "قَالَ لِي رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ: هَذَا مَقَامُ أَخِيكَ تَمِيمٍ الدَّارِيِّ، قَامَ لَيْلَةً حَتَّى أَصْبَحَ أَوْ كَرُبَ أَنْ يُصْبِحَ بِآيَةٍ مِنَ الْقُرْآنِ يُرَدِّدُهَا يَبْكِي، فَيَرْكَعُ بِهَا وَيَسْجُدُ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ، سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ [الجاثية: 21] .
وورد عن بعض الصحابة والسلف أنهم كانوا يقومون أكثر الليل، ومن ذلك:
1 - عن عون بن عبد الله عن أبيه قال: " كَانَ عَبْدُ اللهِ بن مسعود رضي الله عنه إِذَا هَدَأَتِ العُيُوْنُ قَامَ، فَسَمِعْتُ لَهُ دَوِيّاً كَدَوِيِّ النَّحْلِ حَتَّى يُصْبِح ".
أخرجه الحاكم في المستدرك (5377)، وسكت عنه الذهبي، وأخرجه ابن المبارك في الزهد (1/32)، وابن أبي شيبة في المصنف (2/73) مرسلًا.
2- قال أبو مسهر رحمه الله: " ما رُئي الأوزاعي باكيًا قط، ولا ضاحكًا حتى تبدو نواجذُه، وإنما كان يبتسم أحيانًا كما روى في الحديث، وكان يُحيِ الليل صلاة وقرآنًا، وبكاءً ". ينظر: "نثل النبال بمعجم الرجال" (4/ 386).
3- قال عبيد الله بن موسى رحمه الله: (كان حمزة الكوفي رحمه الله يقرئ القرآن حتى يتفرق الناس، ثم ينهض فيصلي أربع ركعات، ثم يصلي ما بين الظهر والعصر، وما بين المغرب والعشاء، وحدثني بعض جيرانه أنه لا ينام الليل، وأنهم يسمعون قراءته يرتل القرآن " ينظر: "معرفة القراء الكبار" للذهبي (1/115).
وليس فيما فعله عمر رضي الله عنه، وغيره من الصحابة والسلف مخالفة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يحدد عددًا من الركعات في قيام الليل ؛ وإنما ترك الأمر بحسب استطاعة كل مسلم ؛ فلكل امرئ أن يصلي من الليل ما يشاء بشرط ألا يضيع بسبب ذلك واجبًا من الواجبات أو حقًّا من الحقوق .
وقد جاء عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( يا عبد الله ! ألم أخبر أنك تصوم النهار وتقوم الليل ) فقلت: بلى يا رسول الله، قال: ( فلا تفعل ؛ صم وأفطر، وقم ونم، فإن لجسدك عليك حقا، وإن لعينك عليك حقا، وإن لزوجك عليك حقا، وإن لزوْرك عليك حقا ....) رواه البخاري (1874) ومسلم ( 1159) .
والحاصل: أنه لم يثبت ثبوتا صريحا عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يصلي التراويح من بعد العشاء إلى الفجر، إلا ما ورد في حديث أبي ذر السابق، ولكن ثبت هذا من فعل الصحابة والتابعين في زمن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، ولا حرج في ذلك بشرط مراعاة الواجبات والحقوق.
والله أعلم.