الله يحب المقسطين
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
الله يحب المقسطينالمقسط بشكل عام هو العادل، من الفعل "أقسط"، ولقد جاء في القرآن العظيم أنَّ الله جل جلاله يُحبُّ المُقسطين، مع غير المؤمنين مرتين، ومع المؤمنين مرَّة واحدة، فأما مع غير المؤمنين، فجاءت في:
♦ قوله تعالى: ﴿ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاؤُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [المائدة: 42].
♦ وقوله تعالى: ﴿ لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الممتحنة: 8].
♦ وأما مَرَّة مع المؤمنين، فكانت في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ﴾ [الحجرات: 9].
جاء في تاج العروس للزبيدي: "وقولُه تعَالى: ﴿ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ ﴾ [البقرة: 282]؛ أَي: أَقْوَمُ وأَعْدَلُ، كالإِقسَاطِ، يُقال: قَسَطَ في حُكْمِهِ، وأَقْسَطَ؛ أَي: عَدَلَ، فهو مُقْسِطٌ، وفي أَسْمَائِه تَعَالَى الحُسْنَى: المُقْسِطُ: هو العادِلُ، ويُقَال: الإِقْسَاطُ: العَدْلُ في القِسْمَة فقط"[1]، وقال ابن فارس في معجم مقاييس اللغة: "القِسْط: النَّصيب، وتَقَسَّطْنا الشَّـيءَ بيننا، والقِسْطَاس: المِيزان، قال الله سبحانه: ﴿ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ﴾ [الإسراء: 35]"[2].
فإنَّ المؤمن عندما يكون مُقسطًا مع المؤمنين، فذلك من الخير الذي يمارسه المؤمن، وهو أمر أقرب ما يكون إلى الطبيعي؛ لتماثل العقائد، وتشابه الفكر، ووحدة الهمِّ، وعقيدة الولاء، فالمؤمنون أبناء جلدة واحدة، يربطهم دين واحد، ومصير واحد، ومع كل هذا فقد أمرنا الله جل جلاله في كتابه أن نقسط في حكمنا بين المؤمنين، ولكن الأجر الأعظم والمقام الأجود هو أن تقسط مع غير المؤمنين، من الذين يعادونك، ويُسيئون إليك، ويحاولون قتلك؛ ذلك أن المؤمنين قد طهَّر الله جل جلاله قلوبهم من حظوظ النفس، فهم يقسطون مع الأعداء قبل الأصدقاء، وذلك يتطلب الوعي الراشد والفهم الدقيق من مراد التشـريع، ثم الصبر العظيم على ذلك، وهذا هو خُلُق الأنبياء عليهم السلام.
قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [المائدة: 8]، جاء في أيسر التفاسير لأبي بكر الجزائري: "أمر الله تعالى المؤمنين أن يكونوا قوامين لله تعالى بسائر حقوقه عليهم من الطَّاعات، وأن يكونوا شهداء بالعدل، لا يحيفون ولا يجورون في شـيء، سواء كان المُشهدُ عليه وليًّا أو عدوًّا، ونهاهم أن يحملهم بغض قوم أو عداوتهم على ترك العدل وقد أمروا به، ثم أمرهم بالعدل وأعلمهم أن أهل العدل هم أقرب الناس إلى التقوى"[3].
كما جاء القسط في القرآن العظيم - أيضًا - في توثيق الدَّيْنِ بكتابته، وإن كان مبلغًا صغيرًا، قال تعالى: ﴿ وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا ﴾ [البقرة: 282]، وفي ذلك ربط بين توثيق الأمور بكتابتها مع القسط الذي يحبُّ الله جل جلاله أهلَه.
والقسط بين الناس أساس الحياة، فأمَرَ الله جل جلاله المؤمنين من عباده أنْ يُقسطوا، قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ﴾ [النساء: 135]، والمقسطون هم الذين يؤدون أمر الله جل جلاله بين الناس؛ لذلك فإنَّ من يقتل المقسطين فإنه يستحق العذاب؛ لأنه يقتل أحبابَ الله جل جلاله، والله جل جلاله يغار على أحبابه، ويدافع عنهم، ومقابل ذلك فإن الله جل جلاله سيعذب من يقتل المقسطين، قال تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [آل عمران: 21].
فمن أجل كلِّ ذلك كان مقام المقسطين بين الناس عظيمًا يوم القيامة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ الله عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ، عَنْ يَمِينِ الرَّحْمَنِ عَزَّ وَجَلَّ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا))[4].
[1] تاج العروس من جواهر القاموس، الزبيدي، ج20، ص24.
[2] معجم مقاييس اللغة، ابن فارس، ج5، ص85.
[3] أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، أبو بكر الجزائري، ج1، ص 601.
[4] صحيح مسلم - باب: فضيلة الإمام العادل وعقوبة الجائر، ج3، ص1458، حديث: 1827.