عنوان الفتوى : الترهيب من الاستهزاء بشعائر الدين ونشر نكات تتضمن ذلك
قرأت نكتة استهزاء بشعائر الله، وهي: شخص منعوه من الحج بسبب ...... ذكرتها بنصها فقط، ولكن قلتها لشخص، وقال لي لا يجوز قول هذه النكتة. وبعد ذلك أرسلتها لشخص، وقام الشخص بإرسالها إلى مجموعة. هل أخذت ذنب كل من قرأها ونشرها؟ وهل من قام بالاستهزاء قد كفر، وخرج عن الملة؟ وهل كفرت وخرجت عن الملة؟ أتمنى الإجابة؛ فأنا أحمل هما في صدري.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن السائل لم يذكر لنا نص النكتة، حتى نعلم هل فيها استهزاء أم لا؟ ولكن الاستهزاء بشعائر الدين يعتبر من الكفر.
فقد قال العلامة الشيخ ابن باز -رحمه الله تعالى- في جواب لسائل يسأل: ظهر في كثير من المجتمعات الإسلامية الاستهزاء بشعائر الدين الظاهرة: كإعفاء اللحى، وتقصير الثياب، ونحوهما، فهل مثل هذا الاستهزاء بالدين الذي يخرج من الملة؟ وبماذا تنصحون من وقع في مثل هذا الأمر؟ وفقكم الله.
فقال الشيخ في الجواب: لا ريب أن الاستهزاء بالله ورسوله، وبآياته، وبشرعه وأحكامه من جملة أنواع الكفر؛ لقول الله - عز وجل -: {قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ - لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة: 65 - 66].
ويدخل في ذلك الاستهزاء بالتوحيد، أو بالصلاة، أو بالزكاة، أو الصيام، أو الحج، أو غير ذلك من أحكام الدين المتفق عليها. اهـ.
وجاء في شرح الطحاوية للعلامة الشيخ ابن جبرين رحمه الله تعالى: الشرور والمعاصي والفتن تتفاوت، فمنها ما قد يوصل إلى الكفر والردة، والخروج من الإسلام، كالاستهزاء بشعائر الله، والاستهزاء بأوامره، والسخرية من أهل الدين والتنقص لهم، فإذا ظهر هذا من أناس، فإننا نبرأ منهم، بل ونضللهم، ونخشى أن يكونوا قد وقعوا فيما يخرج من الملة؛ وذلك لأن الله قد ذكر السخرية من أعمال الكفار، قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ} [المطففين:29] أي: ضحك استهزاء، {وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ} [المطففين:30] . ويقول الله تعالى عنهم: {إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا} [المؤمنون:109-110] أي: تستهزئون بهم وتتنقصونهم، فجعل من أسباب عذابهم سخريتهم بأهل الدين. ومثل ذلك قوله تعالى: {الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة:79] ، يستهزئون بهم ويتنقصونهم لضعف حالهم، فهذا دليل على أن الاستهزاء بالدين وبحملته، يعتبر من دلائل الكفر. كذلك قوله تعالى: {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ * زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:211-212] أي: يستهزئون بالمؤمنين، (يسخرون منهم) أي: من أعمالهم ومن ديانتهم، ومن عباداتهم أو ما أشبه ذلك، فتكون هذه السخرية من أسباب ردتهم وكفرهم. وقد وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أن بعض المنافقين استهزؤوا ببعض المؤمنين من أجلاء الصحابة، أولئك المنافقون الذين قالوا: ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء، أرغب بطوناً، ولا أكذب ألسنةً، ولا أجبن عند اللقاء! وهم يعنون بذلك الصحابة، حيث وصفوهم بأنهم شديدو الرغبة في الأكل فقط، ولكنهم عند القتال جبناء أذلاء، وأنهم لا يقولون إلا كذباً. وكذب من قال عليهم بهذا القول، بل هو المتصف بذلك، ولما ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ذلك وبخهم على ذلك، فجاءوا يعتذرون ويقولون: يا رسول الله! إنما كنا نتحدث حديث الركب لنقطع به الطريق، وهذا معنى قولهم: إنما كنا نخوض ونلعب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لهم: {أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} [التوبة:65-66] فجعل فعلهم هذا كفراً، حيث إنهم استهزؤوا بالله وبآياته، وبرسوله وبأصحاب رسوله، فكان ذلك ردة منهم، فإذا وصلت الحال بالمرء إلى هذا القدر، فإنه يحكم بكفره والعياذ بالله. اهـ
هذا؛ ويحرم نشر ما يحتوي على الكفر، ويخشى على صاحبه من أن يناله إثم من اطلعوا على النكتة بعد النشر، كما قال تعالى: وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ {العنكبوت:13}.
وهذه الأثقال هي وزر إضلالهم الناس، فهذا مما كسبته أيديهم، كما قال تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ {النحل:25}.
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَنْ دَعَا إلَى هُدًى، كَانَ لَهُ مِنْ الْأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنْ دَعَا إلَى ضَلَالَةٍ، كَانَ عليه من الإثم مِثْلُ آثَامِ مَنْ تَبِعَهُ، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ آثَامِهِمْ شيئا. رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
فتبين بهذا وغيره من النصوص، أن الداعي إلى المنكر، والمروج له، والقائم بنشره يحصل له وزر من عمل بهذا المنكر بسبب دعائه له، فهذا وزره الذي اقترفه.
قال العلامة الشنقيطي مبينًا إزالة التعارض بين هذا وبين قوله: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ـ : وَالْجَوَابُ أَنَّ هَؤُلَاءِ الضَّالِّينَ مَا حَمَلُوا إِلَّا أَوْزَارَ أَنْفُسِهِمْ؛ لِأَنَّهُمْ تَحَمَّلُوا وِزْرَ الضَّلَالِ، وَوِزْرَ الْإِضْلَالِ، فَمَنَّ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلَيْهِ وِزْرُهَا، وَوِزْرُ مَنْ عَمِلَ بِهَا، لَا يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أَوْزَارِهِمْ شَيْئًا؛ لِأَنَّ تَشْرِيعَهُ لَهَا لِغَيْرِهِ ذَنْبٌ مِنْ ذُنُوبِهِ، فَأُخِذَ بِهِ. انتهى.
وقال ابن القيم في طريق الهجرتين: قد استقرت حكمة الله وعدله، أن يجعل على الداعي إلى الضلال مثل آثام من اتبعه، واستجاب له، ولا ريب أن عذاب هذا يتضاعف ويتزايد بحسب من اتبعه وضل به، وهذا النوع في الأشقياء، مقابل دعاة الهدى في السعداء، فأولئك يتضاعف ثوابهم وتعلو درجاتهم بحسب من اتبعهم واهتدى بهم، وهؤلاء عكسهم. وقال شيخ الإسلام: والداعي إلى الكفر هو كافر كفراً مغلظاً. اهـ.
وأما عن كفر الشخص المعين، فلا بد له من توفر شروط التكفير، وانتفاء الموانع؛ لأن الحكم على العمل أنه كفر، لا يعني بالضرورة أن فاعله كافر، فالحكم على الفعل شيء، والحكم على الفاعل شيء آخر، وليس كل من وقع في الكفر، وقع الكفر عليه. وأن من ثبت إسلامه بقين، لم يزل ذلك عنه بالشك، بل لا يزول إلا بعد إقامة الحجة وإزالة الشبهة.
ثم إن حكاية النكتة المتضمنة للاستهزاء -وان كان محرما- لا يلزم منها حصول الكفر، إلا إن كان الحاكي مقرا بما فيها، معتقدا إياه، أو راضيا به؛ لأن ناقل الكفر ليس بكافر.
فقد قال ابن مفلح في الفروع: ولا يكفر من حكى كفرا سمعه، ولا يعتقده، ولعل هذا إجماع. اهـ.
وتابعه في هذا البهوتي في كشاف القناع، والرحيباني في غاية المنتهى، وراجع الفتويين: 187301, 197893.
وراجع الفتوى رقم: 138223، وما أحيل عليه فيها.
وراجع للاطلاع على البسط في هذا الموضوع، الفتوى رقم: 721، والفتوى رقم: 15255، والفتوى رقم: 12800.
والله أعلم.