عنوان الفتوى : معنى قول ابن القيم إن مدمن الكبيرة والمصر على الصغيرة لا يصفو له التوحيد ولا يسلم من الشرك

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

أريد فهم هذا الكلام لابن القيم رحمه الله بشكل جيد، حيث وقفت عليه في كتابه "مدارج السالكين" لو تكرمتم بتوضيح المقصود منه، قال رحمه الله : "... ولا يمكن مدمن الكبيرة والمصر على الصغيرة أن يصفو له التوحيد ، حتى لا يشرك بالله شيئا، هذا من أعظم المحال...."، وأعلم أن الإصرار على المعصية يوجب من خوف القلب من غير الله، ورجائه لغير الله، وحبه لغير الله، وذله لغير الله، وتوكله على غير الله ما يصير به منغمسا في بحار الشرك، والحاكم في هذا ما يعلمه الإنسان من نفسه، إن كان له عقل، فإن ذل المعصية لا بد أن يقوم بالقلب فيورثه خوفا من غير الله، وذلك شرك، ويورثه محبة لغير الله، واستعانة بغيره في الأسباب التي توصله إلى غرضه، فيكون عمله لا بالله ولا لله، وهذا حقيقة الشرك . "مدارج السالكين بين منازل إياك نعبد وإياك نستعين " فصل في منازل إياك نعبد » فصل منزلة التوبة » فصل الكبائر ص335 . السؤال : كيف إن الإصرار على المعصية يوجب من خوف القلب من غير الله، ورجائه لغير الله، وحبه لغير الله، وذله لغير الله، وتوكله على غير الله ما يصير به منغمسا في بحار الشرك، وهل يمكن ضرب أمثلة على هذا؟ والسؤال : هل هذا الكلام يعني أن مرتكب الكبيرة والمُصر علي صغائر الذنوب لا يمكن أن يحقق التوحيد المنجي له في الآخرة (لا يشرك بالله شيئا)، وسيلقي الله مشركاً كافرا وـ العياذ بالله ـ ؟

مدة قراءة الإجابة : 6 دقائق

الحمد لله.

أولا:

كلام ابن القيم رحمه الله واضح، ومداره على أن الإصرار على المعصية يوجب تعلق القلب بغير الله، خوفا، وحبا، وذلا، وتوكلا، وهذا من الشرك.

ومثاله: من كان مصرا على الزنا أو المخادنة أو الفاحشة، فإن هذا يقتضي تعلق قلبه بمن يحب، وذله له، وتوكله عليه، وخوفه من فراقه، والسعي بكل طريق لإرضائه، وقلما يسلم المصر من شيء من ذلك.

وكذلك من كان مصرا على السرقة، فلا يخلو من تعلق قلبه بالمال، وجريه خلفه، وذله بذلك، وخوفه من فقده ، ونحو ذلك.

فالمعصية تورث الذل والخضوع والتعلق، وذلك مناف لكمال التوحيد، وفي صاحبها من العبودية لغير الله على قدر إصراره وتعلقه بالمعصية، ولهذا قال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :  تَعِسَ عَبْدُ الدِّينَارِ وَالدِّرْهَمِ وَالْقَطِيفَةِ وَالْخَمِيصَةِ إِنْ أُعْطِيَ رَضِيَ وَإِنْ لَمْ يُعْطَ لَمْ يَرْضَ  رواه البخاري (2887).

فالذي تعلق قلبه بهذه الأشياء ، لم يعد يرضيه ما يرضي الله ، ولا يسخطه ما يسخط الله ، وإنما يرضى إن أعطي ، ويسخط إذا لم يعط ، وهذا نوع من الشرك .

ثانيا:

التوحيد الذي يحرق جميع الذنوب، ويعصم العبد من دخول النار مطلقا، هو التوحيد الكامل الخالص من شوائب الشرك، وهذا التوحيد يبعث على فعل الطاعات وترك المنكرات ولابد.

وفي الحديث القدسي:  قَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ مَا دَعَوْتَنِي وَرَجَوْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ عَلَى مَا كَانَ فِيكَ وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ لَوْ بَلَغَتْ ذُنُوبُكَ عَنَانَ السَّمَاءِ ثُمَّ اسْتَغْفَرْتَنِي غَفَرْتُ لَكَ، وَلَا أُبَالِي، يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ لَوْ أَتَيْتَنِي بِقُرَابِ الأَرْضِ خَطَايَا ثُمَّ لَقِيتَنِي لَا تُشْرِكُ بِي شَيْئًا لَأَتَيْتُكَ بِقُرَابِهَا مَغْفِرَةً  رواه الترمذي (3540)،وصححه الألباني.

ولهذا قال ابن القيم رحمه الله قبل الموضع الذي ذكرت: "فاعلم أن هذا النفي العام للشرك - أن لا يشرك بالله شيئا البتة - لا يصدر من مُصِر على معصية أبدا".

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " قوله: لا تشرك بي شيئا" : جملة " لا تشرك" في موضع نصب على الحال من التاء، أي: لقيتني في حال لا تشرك بي شيئا.

قوله " شيئا" نكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي لا شركا أصغر ولا أكبر.

وهذا قيد عظيم ، قد يتهاون به الإنسان، ويقول: أنا غير مشرك؛ وهو لا يدري!! فحب المال مثلا، بحيث يلهي عن طاعة الله: من الإشراك، قال النبي صلى الله عليه وسلم: " تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد الخميصة، تعس عبد الخميلة..." الحديث. فسمى النبي صلى الله عليه وسلم من كان همه الدينار سماه عبدا له" انتهى من "القول المفيد" (1/ 77).

وقال رحمه الله: "أما بالنسبة لجعل المعاصي كلها شركاً: فهذا نعم، بالمعنى العام؛ لأن المعاصي إنما تصدر عن هوى، وقد سمى الله تعالى من اتبع هواه متخذاً له إلهاً، فقال: (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ) [الجاثية:23]...

إذا وردت النصوص بالشرك، ولكنه بمقتضى القواعد العامة للشريعة لا يخرج من الإسلام؛ فهو شركٌ أصغر، مثل قوله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك) " انتهى من "لقاء الباب المفتوح" (192/ 13).

والحاصل :

أن مدمن الكبيرة - وليس مرتكبها فقط -، والمصر على الصغيرة، لا يسلم من الشرك الأصغر، والشرك الخفي، وهو تعلق القلب وذله وخوفه وحبه وتوكله على غير الله، لكنه لا يخرج من الملة بهذا، ما لم يستحل المعصية، ولكنه لا يكون محققا للتوحيد الخالص الذي وعد صاحبه بالنجاة التامة، بل يكون عرضة لدخول النار، عافانا الله.

وهذا يبين أهمية التوبة، وعدم الإصرار على المعصية، ولهذا قال تعالى في شأن المتقين:  وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ  آل عمران/133- 136

وينظر لمزيد الفائدة جواب السؤال رقم : (287492) .

والله أعلم.

أسئلة متعلقة أخري
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي...