عنوان الفتوى : شرح حديث: ( إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي )
هل يمكنكم شرح حديث: ( إنَّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي ...) ؟
الحمد لله.
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: لَمَّا قَضَى اللَّهُ الخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي رواه البخاري (7453)، ومسلم (2751).
قوله صلى الله عليه وسلم: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي ؛ يشمل معنيين:
المعنى الأول:
أن رحمة الله تعالى سبقت غضبه؛ لأن رحمته تعالى تدرك عباده من غير حق سابق لهم، بل تفضلا منه سبحانه وتعالى.
وأما الغضب فهي صفة له سبحانه وتعالى، لا يلحق أثرها بالعباد إلا إذا صدر منهم سبب استحقاق الغضب والعقوبة، من كفر وعصيان؛ فلذا رحمته تعالى في هذا الوجود سابقة على غضبه سبحانه وتعالى.
قال ابن بطال رحمه الله تعالى:
" وأما قوله: ( كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إِنَّ رَحْمَتِي سَبَقَتْ غَضَبِي )…
فكان من رحمته تلك : أن ابتدأ خلقه بالنعمة بإخراجهم من العدم إلى الوجود، وبسط لهم من رحمته في قلوب الأبوين على الأبناء، من الصبر على تربيتهم، ومباشرة أقدارهم؛ ما إذا تدبره متدبر أيقن أن ذلك من رحمته تعالى، ومن رحمته السابقة أنه يرزق الكفار وينعمهم، ويدفع عنهم الآلام، ثم ربما أدخلهم الإسلام رحمة منه لهم، وقد بلغوا من التمرد عليه، والخلع لربوبيته، غايات تغضبه، فتغلب رحمته، ويدخلهم جنته، ومن لم يتب عليه حتى توفاه، فقد رحمه مدة عمره بتراخي عقوبته عنه، وقد كان له ألا يمهله بالعقوبة ساعة كفره به، ومعصيته له، لكنه أمهله رحمة له.
ومع هذا؛ فإن رحمة الله السابقة أكثر من أن يحيط بها الوصف " انتهى من"شرح صحيح البخاري" (10 / 488 - 489).
فالعباد سبقت إليهم رحمة الله تعالى الدينية والدنيوية؛ ولا يحلقهم غضبه سبحانه إلا إذا تمادوا في عدم شكر هذه الرحمة، ولم يتوبوا من هذا التمادي، فإن تابوا رفعت عنهم آثار الغضب.
كما في قوله تعالى: كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى ، وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى طه /82.
ولا يحل عليهم الغضب بسبب كفران النعم، إلا بعد سبق رحمة الإنذار والبيان.
قال الله تعالى: وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا الإسراء/15.
والمعنى الثاني:
أن رحمته تعالى بخلقه، حتى العصاة والكفار منهم: أغلب من غضبه سبحانه عليهم.
ويدل لهذا رواية الإمام مسلم (2751): إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي .
قال الشيخ عبد الرحمن البراك:
" السبق يراد به التقدم في الزمان، ويراد به الغلبة...
والأظهر في سبق الرحمة المعنى الثاني، ويؤيده أن الحديث ورد بلفظ: ( إن رحمتي تغلب غضبي ).
والرحمة المضافة إلى الله تعالى نوعان: صفة ذاتية، وصفة فعلية.
ولا ريب أن الرحمة الذاتية سابقة للغضب في الزمان؛ لأنه سبحانه موصوف بها في الأزل، فيصح أن يقال: لم يزل رحيما.
وأما الغضب فهو صفة فعلية، فهو تابع لمشيئته.
والأظهر أن الرحمة التي تسبق وتغلب الغضب: هي الرحمة الفعلية التي تكون بمشيئته سبحانه " انتهى من "فتح الباري بتعليق الشيخ عبد الرحمن البراك" (17 / 462).
قال عبد الحق الدهلوي رحمه الله تعالى:
" وقوله: (إن رحمتي سبقت غضبي) وذلك لأن آثار رحمة اللَّه، وجوده وإنعامه: عمت المخلوقات كلها، وهي غير متناهية، بخلاف أثر الغضب فإنه ظاهر في بعض بني آدم، ببعض الوجوه، كما قال: ( وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا )، وقال: ( عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ).
وأيضا تهاوُن العباد وتقصيرهم في أداء شكر نعمائه تعالى: أكثر من أن يعدّ ويحصى، ( وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ )، فمن رحمته أن يبقيهم ويرزقهم وينعِّمهم بالظاهر ولا يؤاخذهم، هذا في الدنيا. وظهور رحمته في الآخرة قد تكفل ببيانه الحديث الآتي.
فإذا لا شك في أن رحمته تعالى سابقة، وغالبة على غضبه، اللهم ارحمنا ولا تهلكنا بغضبك وأنت أرحم الراحمين " انتهى من "لمعات التنقيح" (5 / 174 – 175).
ومن الصور التي يظهر فيها معنى هذا الحديث، ما جاء في حديث ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا يَرْوِي عَنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ قَالَ: قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً رواه البخاري (6491)، ومسلم (131).
فالحاصل؛ أن هذا الكون كله، وما يحتويه: مدار وجوده واستمراره على رحمة الله تعالى؛ وأن غضبه سبحانه وتعالى كالعارض.
قال الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى:
" … المدار على الرحمة، وأن الغضب كالعارض. ولذلك اشتق الله لنفسه أسماء من الرحمة والرأفة ونحوها، ولم يشتق لنفسه اسما من الغضب. وفي "الصحيحين" في الحديث القدسي: ( إن رحمتي سبقت غضبي ) " انتهى من "آثار الشيخ المعلمي" (7 / 126).
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |