عنوان الفتوى : اقتصار الجن على صحف إبراهيم وموسى
لماذا ذكر الجن كتاب موسى ولم يذكروا كتاب عيسى عليهما السلام؟ ولم يذكر أيضا في بعض الآيات مثل :( إِنَّ هَٰذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىٰ (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَىٰ (19) ؟
الحمد لله.
أولًا : استماع الجن للقرآن
قال الله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَاقَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ * يَاقَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ * وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ الأحقاف/29-32 .
وقد أورد الإمام ابن كثير عددًا من الأحاديث في استماع الجن للقرآن في تفسير قوله تعالى: وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ الأحقاف/ 29، فلتنظر في تفسيره: (7/ 289).
وقد تعدد سماع الجن للقرآن، كما ورد في الأحاديث، فقد استمعوا للقرآن من النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مرة .
قال ابن كثير عن إحدى الروايات التي أوردها: "وهذا يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة ، وإنما استمعوا قراءته، ثم رجعوا إلى قومهم ، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالا قوما بعد قوم، وفوجا بعد فوج، كما سيأتي بذلك الأخبار في موضعها والآثار"، التفسير: (7/ 291)، وقال (7/ 296): "فهذه الطرق كلها تدل على أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجن قصدا، فتلا عليهم القرآن، ودعاهم إلى الله، عز وجل، وشرع الله لهم على لسانه ما هم محتاجون إليه في ذلك الوقت.
وقد يحتمل أن أول مرة سمعوه يقرأ القرآن ولم يشعر بهم، كما قاله ابن عباس، رضي الله عنهما، ثم بعد ذلك وفدوا إليه كما رواه ابن مسعود".
وانظر للفائدة: جواب السؤال رقم : (300702)، ورقم : (105011) .
ثانيًا : تخصيص الجن لكتاب موسى
وأما تخصيص الجن لكتاب موسى عليه السلام في قولهم : يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ الأحقاف/ 30 .
فقد ذكر العلماء عدة تعليلات لهذا :
1- أنهم كانوا يهودًا .
ذكره "الثعلبي" في "الكشف والبيان" (24/ 141).
قال "ابن عطية" في "المحرر الوجيز" (5/ 105) : " وخصصوا مُوسى عليه السلام لأحد أمرين:
- إما لأن هذه الطائفة كانت تدين بدين اليهود .
- وإما لأنهم كانوا يعرفون أن موسى قد ذكر محمدا وبشر به، فأشاروا إلى موسى من حيث كان هذا الأمر مذكورا في توراته "، انتهى .
2- أن الإنجيل كالمتمم للتوراة، فاكتفوا بذكرها عن ذكره .
قال "ابن كثير" في "تفسيره" (7/ 302) : " ثم إنه تعالى فسر إنذار الجن لقومهم ، فقال مخبرا عنهم: قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق ، ولم يذكروا عيسى؛ لأن عيسى، عليه السلام، أنزل عليه الإنجيل فيه مواعظ وترقيقات وقليل من التحليل والتحريم، وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة، فالعمدة هو التوراة؛ فلهذا قالوا: أنزل من بعد موسى. وهكذا قال ورقة بن نوفل، حين أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بقصة نزول جبريل عليه السلام عليه أول مرة، فقال: بخ بخ، هذا الناموس الذي كان يأتي موسى، يا ليتني أكون فيها جذعًا".
وقال "الطاهر" في "التحرير والتنوير" (26/ 60) : " وَوَصَفَ الْكِتَابَ بِأَنَّهُ أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى، دُونَ: أُنْزِلَ على مُحَمَّد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لِأَنَّ التَّوْرَاةَ آخِرُ كِتَابٍ مِنْ كُتُبِ الشَّرَائِعِ نَزَلَ قَبْلَ الْقُرْآنِ، وَأَمَّا مَا جَاءَ بَعْدَهُ ، فَكُتُبٌ مُكَمِّلَةٌ لِلتَّوْرَاةِ ، وَمُبَيِّنَةٌ لَهَا ، مِثْلُ زبور دَاوُد و إنجيل عِيسَى ، فَكَأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ شَيْءٌ جَدِيدٌ بَعْدَ التَّوْرَاةِ ، فَلَمَّا نَزَلَ الْقُرْآنُ جَاءَ بهدى مُسْتَقِلٍّ، غَيْرِ مَقْصُودٍ مِنْهُ بَيَانُ التَّوْرَاةِ ، وَلَكِنَّهُ مُصَدِّقٌ لِلتَّوْرَاةِ ، وَهَادٍ إِلَى أَزْيَدَ مِمَّا هَدَتْ إِلَيْهِ التَّوْرَاة " انتهى.
ثالثًا : سبب تخصيص ذكر صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام بالذكر
وسبب تخصيص ذكر صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام بالذكر، لأنها أم الشرائع ، وما بعدها تبع لها ، فإن شرائع بني إسرائيل تابعة لشريعة موسى ، كما سبق وأسلفنا ، وشريعة إبراهيم كانت في بنيه من بعده ، ونحن متبعون لملته .
قال الطاهر ابن عاشور" (27/ 129 - 130) : " وَإِنَّمَا خَصَّ هَذِهِ الصُّحُفَ بِالذِّكْرِ لِأَنَّ الْعَرَبَ يَعْرِفُونَ إِبْرَاهِيمَ وَشَرِيعَتَهُ ، وَيُسَمُّونَهَا الْحَنِيفِيَّةَ ، وَرُبَّمَا ادَّعَى بَعْضُهُمْ أَنَّهُ عَلَى أثَارَةٍ مِنْهَا ، مِثْلُ: زَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ.
وَأَمَّا صُحُفُ مُوسَى : فَهِيَ مُشْتَهِرَةٌ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَالْعَرَبُ يُخَالِطُونَ الْيَهُودَ فِي خَيْبَرَ وَقُرَيْظَةَ وَالنَّضِيرِ وَتَيْمَا، وَيُخَالِطُونَ نَصَارَى نَجْرَانَ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: ( فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْلا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسى )[الْقَصَص: 48] .
وَتَقْدِيمُ صُحُفِ مُوسى لِأَنَّهَا اشْتُهِرَتْ بِسِعَةِ مَا فِيهَا مِنَ الْهُدَى وَالشَّرِيعَةِ، وَأَمَّا صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فَكَانَ الْمَأْثُورُ مِنْهَا أَشْيَاءَ قَلِيلَةً. وَقُدِّرَتْ بِعَشْرِ صُحُفٍ، أَيْ مِقْدَارُ عَشْرِ وَرَقَاتٍ بِالْخَطِّ الْقَدِيمِ، تَسَعُ الْوَرَقَةُ قُرَابَةَ أَرْبَعِ آيَاتٍ مِنْ آيِ الْقُرْآنِ بِحَيْثُ يكون مَجْمُوع ما في صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ : مِقْدَارَ أَرْبَعِينَ آيَةً.
وَإِنَّمَا قُدِّمَ فِي سُورَةِ الْأَعْلَى صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ عَلَى صُحُفِ مُوسَى ، مُرَاعَاةً لِوُقُوعِهِمَا بَدَلًا مِنَ الصُّحُفِ الْأُولَى ، فَقَدَّمَ فِي الذَّكَرِ أَقْدَمَهُمَا.
وَعِنْدِي أَن تَأْخِير ذكر صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ [ يعني: في سورة النجم : (أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى ] : لِيَقَعَ مَا بَعْدَهَا هُنَا ، جَامِعًا لِمَا احْتَوَتْ عَلَيْهِ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ ؛ فَتَكُونُ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ هِيَ الْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتَلَى اللَّهُ بِهَا إِبْرَاهِيمَ ، الْمَذْكُورَةَ فِي قَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [124] : ( وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ ) ؛ أَيْ بَلَّغَهُنَّ إِلَى قَوْمِهِ وَمَنْ آمَنَ بِهِ، وَيَكُونُ قَوْلُهُ هُنَا: (الَّذِي وَفَّى) ، فِي مَعْنَى قَوْلِهِ: ( فَأَتَمَّهُنَّ ) فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ [124] " انتهى .
وقد حاول بعض العلماء إيجاد علل أخرى لا تخلو من ضعف :
- ففي قوله تعالى : أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى النجم/ 36 - 38 .
نقل "القرطبي" (17/ 113) : " وخص صحف إبراهيم وموسى بالذكر، لأنه كان ما بين نوح وإبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة أخيه وابنه وأبيه، قاله الهذيل بن شرحبيل "، انتهى .
وفي "مجموع الفتاوى" (16/ 197 - 216) لشيخ الإسلام ابن تيمية بيان حافل في جمع الله تعالى ذكر إبراهيم مع موسى في القرآن ، فانظره فإنه مفيد .
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري |
---|
اقتصار الجن على صحف إبراهيم وموسى |
اقتصار الجن على صحف إبراهيم وموسى |