عنوان الفتوى : ما يعطى لإبطال حق أو التوصل إلى باطل هو الرشوة المحرمة شرعًا
أنا موظف في أحد البنوك، وقبل سنة اختلست مبلغًا من البنك، وبعد إرجاع المال، ودفع غرامة مالية؛ فصلوني من العمل، واشتكيت عدة مرات ليعيدوني للعمل؛ فلم يُفِد ذلك، وحاليًّا اشتكيت في المحكمة العليا؛ لأجل إبطال الحكم، وبعد ذلك عرض عليّ شخص وسيط دفع مبلغ كرشوة؛ لكي يصدر الحكم لصالحي، فهل يجوز هذا؟ أفيدوني -بارك الله فيكم-.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فإن مسائل المنازعات، لا يتأتى بيان الحكم فيها إلا بعد السماع من أطراف النزاع كلهم؛ ولذلك كانت من اختصاص القضاء الشرعي، والذي يسعنا قوله لك هو أن نبين لك بيانًا عامًّا، بأن ما يعطى لإبطال حق، أو التوصل إلى باطل، هو الرشوة المحرمة شرعًا، وهي من كبائر الذنوب، جاء في حديث عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- قال: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي، والمرتشي. رواه أبو داود، والترمذي، وقال: حسن صحيح.
وأما ما يبذله المرء للتوصل إلى حق، أو ليدرأ عن نفسه ظلمًا، فليس هذا من الرشوة المحرمة في حق المعطي، قال الخطابي: الراشي: المعطي، والمرتشي: الآخذ، وإنما يلحقهما العقوبة معًا إذا استويا في القصد، والإرادة، فرشا المعطي لينال به باطلًا، ويتوصل به إلى ظلم، فأما إذا أعطى ليتوصل به إلى حق، أو يدفع عن نفسه ظلمًا، فإنه غير داخل في هذا الوعيد. وروي أن ابن مسعود أُخذ في شيء، وهو بأرض الحبشة، فأعطى دينارين حتى خلي سبيله. وروي عن الحسن، والشعبي، وجابر بن زيد، وعطاء أنهم قالوا: لا بأس أن يصانع الرجل عن نفسه، وماله، إذا خاف الظلم. وكذلك الآخذ إنما يستحق الوعيد إذا كان ما يأخذه إما على حق يلزمه أداؤه، فلا يفعل ذلك حتى يرشى، أو عمل باطل يجب عليه تركه، فلا يتركه حتى يصانع، ويرشى. اهـ. من معالم السنن.
وفي البيان للعمراني الشافعي: وأما الراشي: فإن كان الراشي يطلب بما يدفعه أن يحكم له بغير الحق، أو على إيقاف الحكم؛ حرم عليه ذلك، وعليه تحمل لعنة النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ للراشي. وإن كان يطلب بما يدفعه وصولًا إلى حقه، لم يحرم عليه ذلك، وإن كان ذلك حرامًا على آخذه، كما لا يحرم عليه فكاك الأسير، وإن كان ذلك يحرم على آخذه. اهـ.
وفي تحفة المحتاج: ومتى بذل له مال ليحكم بغير حق، أو ليمتنع من حكم بحق، فهو الرشوة المحرمة إجماعًا. ومثله ما لو امتنع من الحكم بالحق إلا بمال، لكنه أقل إثمًا، وقد قال صلى الله عليه وسلم: لعن الله الراشي، والمرتشي في الحكم. وفي رواية: والرائش، وهو الماشي بينهما، ومحله في راش لباطل، أما من علم أخذ ماله بباطل لولا الرشوة، فلا ذم عليه. اهـ.
وفي كشاف القناع: (ويحرم) على القاضي (قبول رشوة) بتثليث الراء؛ لحديث ابن عمر: لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي، والمرتشي. قال الترمذي: حسن صحيح. ورواه أبو بكر في زاد المسافر، وزاد: "والرائش" وهو السفير بينهما (وهي) أي الرشوة (ما يعطى بعد طلبه) لها (ويحرم بذلها من الراشي ليحكم بباطل، أو يدفع عنه حقًّا، وإن رشاه ليدفع) عنه (ظلمه، ويجريه على واجبه، فلا بأس به في حقه) قال عطاء، وجابر بن زيد، والحسن: لا بأس أن يصانع عن نفسه، ولأنه يستفيد ما له، كما يستفيد الرجل أسيره. اهـ.
وقال ابن عثيمين: الرشوة هي كل ما يتوصل به الإنسان إلى غرضه، مشتقة من الرشاء، وهو الحبل الذي يدلى به الدلو ليستقى به من البئر، وهي في الحقيقة تنقسم إلى قسمين:
رشوة يتوصل بها الإنسان إلى باطل، لدفع حق واجب عليه، أو الحصول على ما ليس له، فهذه محرمة على الآخذ، وعلى المعطي أيضًا.
وقد جاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لعن الراشي، والمرتشي. واللعن هو الطرد، والإبعاد عن رحمة الله، وهذا يدل على أنها من كبائر الذنوب، حيث رتبت عليها هذه العقوبة العظيمة.
والقسم الثاني: رشوة يتوصل بها الإنسان إلى حقه المشروع، أو دفع باطل عنه، وهذه محرمة في حق الآخذ، وجائزة في حق المأخوذ منه؛ لأنه يريد أن يتخلص من الظلم، أو يتوصل إلى حقه، وهو غير ملوم على هذا. اهـ. من فتاوى نور على الدرب.
والله أعلم.