عنوان الفتوى : التعليق على القول بأن قدماء المصريين هم أول من صنع السفن.

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

خلال تصفحي قرأت هذه المقالة: " الطوفان في زمن نوح عليه السلام : ‏تم ذكر هذه الحادثة الشهيرة في أكثر من 600 مجلد قديم حول العالم ، حتى إن الأحجار السومرية التي تبلغ الآلاف السنين والحضارة البابلية القديمة تحدثت عنها، وكيف قال علماء الآثار : إن الفراعنة هم أول من بنوا السفن وقادوها في الأنهار؟ ‏وهنا الشئ المحير، وفقاً لبناء سفينة نوح فإنها كانت مصممة بأحدث مستوى، وبدقة عالية مما يدل على وجود علم وحضارة راقية في عصر النبي نوح، وهو الحفيد السادس لسيدنا آدم مما يعني أنه ولد قبل عصر الفراعنة بآلالاف السنين، فكيف يكون الفراعنة أول من بنى السفن، ولم تبنيها الحضارات التي سبقتها ؟ الإجابة المنطقية الوحيدة أنه خلال عصر النبي نوح كانت الحضارة متقدمه للغاية بل حتى أكثر منا، لكن بعد الطوفان تلاشت تلك المعرفة، وعدنا إلى نقطة الصفر، مما يعني أن التاريخ يعيد نفسه "حضارة، تطور، كارثة، اندثار" وهكذا، ونحن الآن في مرحلة التطور، وبالفعل هناك الكثير من الأمور التي تنبأ بكارثة كما حدث في السابق" فهل هناك بعض الأحاديث أو الروايات التي تناقض القصة السابقة ؟

مدة قراءة الإجابة : 9 دقائق

الحمد لله.

أولا: قدماء المصريين عرفوا بصناعة السفن ولم يكونوا أول من صنعها 

مما لا شك فيه أن عصر الفراعنة قد عرف فيه الإنسان صنع السفن كما تدل عليه الآثار، وكما ينص عليه القرآن، كما في قوله تعالى في قصة موسى والخضر عليهما السلام:

 فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا ، قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا  الكهف/71 – 72.

ومن المعلوم أن عصرهم يبعد عن عصر نوح عليه السلام بأزمان طويلة ، لا يعلم مقدارها إلا الله تعالى عاش فيها أقوام كثيرون؛ حيث قال سبحانه وتعالى:

 وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ ، أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ  إبراهيم/8 – 9.

 وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا ، وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا الفرقان/37 – 38 .

قال ابن كثير رحمه الله تعالى:

" وقوله: ( وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا ) أي: وأمما بين أضعاف من ذكر أهلكناهم كثيرة...

والقرن: هو الأمة من الناس... والأظهر: أن القرن هم الأمة المتعاصرون في الزمن الواحد؛ فإذا ذهبوا وخلفهم جيل آخر فهم قرن ثان، كما ثبت في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم ) الحديث " انتهى من "تفسير ابن كثير" (6 / 112).

فالقول أنّ من عصر نوح عليه السلام إلى عصر هؤلاء المصريين لم يعرف أحد صنع سفينة هذا مجرد تخرّص بلا علم.

فما ذكره هذا الباحث من أن المصريين القدماء هم أول من صنع السفن، هذا ليس حقيقة تاريخية حتى على منهج الاستدلال بالآثار المادية دون غيرها.

ومقابل هذا الرأي هناك آراء أخرى من تقول بأن شعوب شمال شرق المتوسط كانت هي المؤثرة على المصريين في صناعة السفن، ومنهم من يرجع ظهور السفن إلى شعوب أخرى كشعوب جنوب شرق آسيا.ويحسن للفائدة مطالعة الرابط الآتي: في موسوعة (ويكيبيديا)
فالقول بأن أول من بنى السفن هم المصريون القدماء هو مجرد تخرص لا يدعمه دليل؛ فوجود آثار للسفن إنما يدل فقط على معرفة أهل مصر قديما بصناعة السفن واستخدامها، أمّا مسألة الأولية؛ فهذه لا يتم إثباتها علميا إلا باستقراء جميع الأقوام الماضين وحضاراتهم ، والقطع بأنهم لم يعرفوا السفن، ومثل هذا الاستقراء يستحيل إجراؤه؛ لتعذر توفير جميع عناصره اللازمة؛ لأن الإنسان لا يمكنه أن يحيط علما بتفاصيل ما أبقاه الله تعالى من آثار في باطن الأرض، وكذا لا يمكنه أن يحيط علما بما فني من الآثار وتحلل في تراب الأرض.

فعلم الآثار لا يمكنه أن يحيط علما بماضي البشرية، لكن يمكنه فقط أن يقف على بعض آثارها.

والمسلم من شأنه في أخبار الماضين أن يثبت ما قام عليه دليل من الوحي ، أو دليل معقول مقبول، ويتوقف فيما جهله ويكل علمه إلى الله تعالى.

قال الله تعالى: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولً الإسراء/36.


ثانيا: نوح عليه السلام بنى السفينة بأمر الله وبتعليم الله له كيفية بنائها

نؤمن بما أخبر به الوحي أن نوحا عليه السلام بنى سفينة بأمر الله تعالى، والذي يشير إليه الوحي أن هذا البناء تم بتعليم الله لنوح كيفية هذا البناء كما في قوله تعالى:

 وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ، وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ  هود/36 – 37.

وقال الله تعالى:  فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ  المؤمنون/27.

قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:

" وفي قوله: ( وَوَحْيِنَا) قولان:

أحدهما: وأمرنا لك أن تصنعها. والثاني: وبتعليمنا إياك كيف تصنعها " انتهى، من "زاد المسير". [1]

والقول الثاني يشير إليه تفسير مجاهد.

روى الطبري (12 / 392) عَنْ مُجَاهِدٍ: " ( بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ) كَمَا نَأْمُرُكَ ".

وروى عبد الرزاق في "التفسير" (2 / 187) عَنْ مَعْمَرٍ ، عَنْ قَتَادَةَ: " فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: ( بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ) قَالَ: بِعَيْنِ اللَّهِ تَعَالَى وَوَحْيِهِ ".

وهذا القول رجحه جماعة من المفسرين.

قال أبو حيّان رحمه الله تعالى:

" (وَوَحْيِنَا) نوحي إليك ونلهمك كيف تصنع. وعن ابن عباس: لم يعلم كيف صنعة الفلك، فأوحى الله أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر...

وقول من قال: معنى (وَوَحْيِنَا) بأمرنا لك أو بعلمنا ضعيف، لأن قوله: (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ)، مغن عن ذلك. " انتهى من "البحر المحيط"[2].

وقال ابن كثير رحمه الله تعالى:

" (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ) يعني: السفينة (بِأَعْيُنِنَا) أي: بمرأى منا، (وَوَحْيِنَا) أي: وتعليمنا لك ماذا تصنعه " انتهى من "تفسير ابن كثير" [3]

وقال الشوكاني رحمه الله تعالى:

" ومعنى بوحينا: بما أوحينا إليك من كيفية صنعتها" انتهى من "فتح القدير"[4]

ولا نعلم ما يدل على أن زمن نوح عليه السلام ، أو قبله ، قد وجد فيه من يعرف صناعة السفن؛ فهذا أمر لا نملك دليلا على إثباته ولا على نفيه.

وليس في الاشتغال بذلك، أو صرف الوقت فيه: كبير فائدة في دين، أو دنيا، بل هي إلى ترف المعارف أقرب منها إلى طلب العلوم، وفوائد التواريخ.


ثالثا:

كون حضارات الشعوب تمر بمراحل قوة ثم ضعف ونهاية كحال الإنسان، هذا أمر يقرره علماء التاريخ والإجتماع كما بيّن هذا ابن خلدون رحمه الله تعالى ؛ حيث يرون أن الحضارات إذا وصلت أعلى قمة قوتها، تبدأ في الضعف، باعتبار أنه بعد القوة يدخل أصحاب الحضارة في الترف، وهذا الترف يطغيهم فيستحلوا المحرمات، فيستجلبوا أسباب الهلاك كما حصل لعاد وثمود وغيرهم، ومن جهة أخرى هذا الترف يضعف عزائمهم وقوتهم عن مواصلة اتخاذ أسباب القوة، ويركنوا إلى اللهو أو إلى التنافس على مغانمها وهذا يؤدي إلى تؤخرهم وتهاوي حضارتهم.

وهذا لا يعني أن كل الحضارات تتشابه في درجة تطور علومها، بل الظاهر أن كل حضارة بحسب زمنها، فمثلا اليونان ما وصلوا إليه من تطور في علوم الطب ونحوه -كما يدل ما بقي من كتبهم وآثارهم- لا يشبه ما وصل إليه الناس في هذا الزمن.

وأما مدى سعة علوم القرون الأولى بسنن الله الكونية وتطبيقاتها فهذا أمر لا نعلم عليه دليلا، والزعم بأنهم كانوا أكثر تطورا ، زعم باطل، فيما تدل عليه حفرياتهم، وآثارهم. ثم هو خرص ليس من ورائه كبير طائل.

والله أعلم.

المراجع

  1. ^ زاد المسير" (4 / 101).
  2. ^ البحر المحيط" (5 / 288).
  3. ^ تفسير ابن كثير (4 / 319).
  4. ^ "فتح القدير" (2 / 693).

أسئلة متعلقة أخري
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي...