عنوان الفتوى : كثير الشك ماذا يفعل؟
علام اعتمد المفتون بأن كثير الشك في العبادات يبني على الأكثر لا علي الأقل كما هو الوارد؟
الحمد لله.
أولا :
كثرة الشك في العبادة: هي نوع من وسوسة الشيطان ، وقد جاءت السنة بأن علاج الوسوسة الإعراض عنها ، وعدم الاسترسال معها .
روى البخاري (3276)، ومسلم (134) عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : يَأْتِي الشَّيْطَانُ أَحَدَكُمْ فَيَقُولُ : مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ مَنْ خَلَقَ كَذَا ؟ حَتَّى يَقُولَ: مَنْ خَلَقَ رَبَّكَ ؟ فَإِذَا بَلَغَهُ فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ .
فعلى هذه السنة اعتمد العلماء في أن كثير الشك (الموسوِس) لا يلتفت إلى الشك ، بل يعرض عنه .
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله :
"قَوْلُهُ : (فَلْيَسْتَعِذْ بِاللَّهِ وَلْيَنْتَهِ)؛ أَيْ : عَنْ الِاسْتِرْسَالِ مَعَهُ فِي ذَلِكَ ، بَلْ يَلْجَأُ إِلَى اللَّهِ فِي دَفْعِهِ وَيَعْلَمُ أَنَّهُ يُرِيدُ إِفْسَادَ دِينِهِ وَعَقْلِهِ بِهَذِهِ الْوَسْوَسَةِ ، فَيَنْبَغِي أَنْ يَجْتَهِدَ فِي دَفْعِهَا بِالِاشْتِغَالِ بِغَيْرِهَا" انتهى ، "فتح الباري" (6/340) .
وقال النووي رحمه الله في "شرح صحيح مسلم" :
"مَعْنَاهُ : الْإِعْرَاض عَنْ هَذَا الْخَاطِر الْبَاطِل ، وَالِالْتِجَاء إِلَى اللَّه تَعَالَى فِي إِذْهَابه" انتهى .
وسئل ابن حجر الهيتمي رحمه الله كما في كتابه "الفتاوى الفقهية الكبرى" (1/149) : هل لدَاءِ الْوَسْوَسَةِ دَوَاءٌ ؟
فَأَجَابَ :
"لَهُ دَوَاءٌ نَافِعٌ ، وَهُوَ الْإِعْرَاضُ عَنْهَا جُمْلَةً ، وَإِنْ كَانَ فِي النَّفْسِ مِنْ التَّرَدُّدِ مَا كَانَ - فَإِنَّهُ مَتَى لَمْ يَلْتَفِتْ لِذَلِكَ لَمْ يَثْبُتْ ، بَلْ يَذْهَبُ بَعْدَ زَمَنٍ قَلِيلٍ كَمَا جَرَّبَ ذَلِكَ الْمُوَفَّقُونَ ، وَأَمَّا مَنْ أَصْغَى إلَيْهَا وَعَمِلَ بِقَضِيَّتِهَا ، فَإِنَّهَا لَا تَزَالُ تَزْدَادُ بِهِ حَتَّى تُخْرِجَهُ إلَى حَيِّزِ الْمَجَانِينِ ، بَلْ وَأَقْبَحَ مِنْهُمْ ، كَمَا شَاهَدْنَاهُ فِي كَثِيرِينَ مِمَّنْ اُبْتُلُوا بِهَا ، وَأَصْغَوْا إلَيْهَا وَإِلَى شَيْطَانِهَا . وَجَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مَا يُؤَيِّدُ مَا ذَكَرْته وَهُوَ (أَنَّ مَنْ اُبْتُلِيَ بِالْوَسْوَسَةِ فَلْيَعْتَقِدْ [كذا، وهو تحريف، وصوابه: فَلْيَسْتَعِذْ] بِاَللَّهِ وَلْيَنْتَهِ) .
فَتَأَمَّلْ هَذَا الدَّوَاءَ النَّافِعَ الَّذِي عَلَّمَهُ مَنْ لَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى لِأُمَّتِهِ ، وَاعْلَمْ أَنَّ مَنْ حُرِمَهُ فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ ؛ لِأَنَّ الْوَسْوَسَةَ مِنْ الشَّيْطَانِ اتِّفَاقًا ، وَاللَّعِينُ لَا غَايَةَ لِمُرَادِهِ إلَّا إيقَاعُ الْمُؤْمِنِ فِي وَهْدَةِ الضَّلَالِ وَالْحَيْرَةِ ، وَنَكَدِ الْعَيْشِ وَظُلْمَةِ النَّفْسِ وَضَجَرِهَا ، إلَى أَنْ يُخْرِجَهُ مِنْ الْإِسْلَامِ ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ أَنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاِتَّخِذُوهُ عَدُوًّا .
وَجَاءَ فِي طَرِيقٍ آخَرَ فِيمَنْ اُبْتُلِيَ بِالْوَسْوَسَةِ فَلْيَقُلْ : (آمَنْت بِاَللَّهِ وَبِرُسُلِهِ) .
وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنْ اسْتَحْضَرَ طَرَائِقَ رُسُلِ اللَّهِ سِيَّمَا نَبِيُّنَا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَجَدَ طَرِيقَتَهُ وَشَرِيعَتَهُ سَهْلَةً وَاضِحَةً بَيْضَاءَ بَيِّنَةً سَهْلَةً لَا حَرَجَ فِيهَا ، وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ ، وَمَنْ تَأَمَّلَ ذَلِكَ وَآمَنَ بِهِ حَقَّ إيمَانِهِ ، ذَهَبَ عَنْهُ دَاءُ الْوَسْوَسَةِ وَالْإِصْغَاءِ إلَى شَيْطَانِهَا .
وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ لِمَنْ بُلِيَ بِالْوَسْوَسَةِ فِي الْوُضُوءِ ، أَوْ الصَّلَاةِ أَنْ يَقُولَ : لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَإِنَّ الشَّيْطَانَ إذَا سَمِعَ الذِّكْرَ خَنَسَ ؛ أَيْ : تَأَخَّرَ وَبَعُدَ ، وَلَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ - رَأْسُ الذِّكْرِ . وَقَالُوا : أَنْفَعُ عِلَاجٍ فِي دَفْعِ الْوَسْوَسَةِ الْإِقْبَالُ عَلَى ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْإِكْثَارُ مِنْهُ" انتهى .
ثانيا :
كثير الشك هو الموسوس (بكسر الواو) ، ويسميه المالكية "المستنكح" (بكسر الكاف وفتحها).
قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
"فإذا كان كثيرَ الشُّكوك بحيث لا يتوضَّأ إلا شكَّ، ولا يصلِّي إلا شَكَّ، فإن هذا لا عِبْرَة بشكِّه، لأن شكَّه حينئذ يكون وسواساً" انتهى ، الشرح الممتع (2/300) .
وقال الحطاب في "مواهب الجليل" (1/301) :
"(الْمُسْتَنْكِحُ) هُوَ الَّذِي يَشُكُّ فِي كُلِّ وُضُوءٍ وَصَلَاةٍ أَوْ يَطْرَأُ لَهُ ذَلِكَ فِي الْيَوْمِ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ وَإِنْ لَمْ يَطْرَأْ لَهُ ذَلِكَ إلَّا بَعْدَ يَوْمَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةٍ فَلَيْسَ بِمُسْتَنْكِحٍ" انتهى.
وفي "التاج والإكليل" (1/320) :
"المُسْتَنْكِح هُوَ الْمُوَسْوِسِ" انتهى.
ثالثا :
تكلم العلماء عن الأحكام المتعلقة بالموسوس في عامة أبوب الفقه ، كالطهارة والصلاة والصيام والمناسك والأيمان والنذور والطلاق وغيرها ، ولا يمكن استيعاب كل هذه الأحكام في هذه الفتوى ، وإنما سيكون الجواب خاصا بالشك في الصلاة وعدد أشواط الطواف والسعي .
فذهب بعض العلماء إلى أن الموسوس يبني على غالب ظنه .
قال المازري في "شرح التلقين" (1/629) :
"المستنكح يبني على الظن ، ومن سواه على اليقين" انتهى .
وذهب آخرون إلى أن الموسوس يبني على الأكثر ، وهذا القول هو الأرجح ، واستدلوا بما يلي :
1-الأحاديث السابقة التي فيها الإعراض عن الوسوسة .
2- أن قطع الوسوسة لا يتم إلا بذلك .
3-أن الغالب في الموسوس أنه يعتريه الشك دفعة واحدة ، فلا يكون عنده غلبة ظن كما هو الواقع .
وها هو كلام العلماء في ذلك :
في "الشرح الكبير" للدردير (2/33) :
"وبنى على الأقل إن شك في عدد الأشواط ، إن لم يكن مستنكحا ؛ وإلا ، بنى على الأكثر" انتهى .
وفي "حاشية العدوي على شرح كفاية الطالب" :
"(وَمَنْ اسْتَنْكَحَهُ) أَيْ دَاخَلَهُ ( الشَّكُّ فِي السَّهْوِ ) فِي الصَّلَاةِ ( فَلْيَلْهَ عَنْهُ ) - بِفَتْحِ الْهَاءِ لَا غَيْرُ- بِمَعْنَى : يُضْرِبُ عَنْهُ ، لَا يُعَوِّلُ عَلَى مَا يَجِدُهُ فِي نَفْسِهِ مِنْ ذَلِكَ ؛ إيجَابًا ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ ، فَدَوَاؤُهُ الْإِلْهَاءُ ، فَإِذَا قَالَ لَهُ مَثَلًا : مَا صَلَّيْت إلَّا ثَلَاثًا ، فَيَقُولُ لَهُ : مَا صَلَّيْت إلَّا أَرْبَعًا ، وَإِنَّ صَلَاتِي صَحِيحَةٌ.
وَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ مُخَالِفٌ لِقَوْلِ ابْنِ الْحَاجِبِ : إنَّ الْمُوَسْوِسَ يَبْنِي عَلَى أَوَّلِ خَاطِرَيْهِ ... وَمَا قَالَهُ الشَّيْخُ هُوَ ظَاهِرُ الْمُدَوَّنَةِ وَغَيْرِهَا .
ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ : وَهُوَ الَّذِي كَانَ يُرَجِّحُهُ بَعْضُ مَنْ لَقِينَاهُ وَيَقُولُ بِهِ ، وَيُوَجِّهُهُ : بِأَنَّ الْمُسْتَنْكِحَ وَمَنْ هَذِهِ صِفَتُهُ ، لَا يَنْضَبِطُ لَهُ الْخَاطِرُ الْأَوَّلُ مِمَّا بَعْدَهُ ، وَالْوُجُودُ يَشْهَدُ لِذَلِكَ" انتهى .
وفي "الفواكه الدواني" (1/224) :
"(وَمَنْ اسْتَنْكَحَهُ) أَيْ كَثُرَ (الشَّكُّ فِي السَّهْوِ) فِي الصَّلَاةِ : (فَلْيَلْهَ عَنْهُ) ؛ أَيْ يُعْرِضْ عَنْهُ ، وُجُوبًا، (وَلَا إصْلَاحَ عَلَيْهِ) ؛ لِأَنَّهُ مِنْ الشَّيْطَانِ وَدَاؤُهُ الْإِعْرَاضُ عَنْهُ وَمُخَالَفَتُهُ . بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُسْتَنْكَحِ : يُصْلِحُ ، وَيَسْجُدُ، ...
وَلَا يُقَالُ: الشَّكُّ فِي النُّقْصَانِ كَتَحَقُّقِهِ؟
لِأَنَّا نَقُولُ: أَخْرَجُوا مِنْ عُمُومِهِ : الْمُسْتَنْكَحَ ؛ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ الْبِنَاءُ عَلَى الْأَكْثَرِ" انتهى .
وقال ابن عابدين في حاشيته (1/128) :
"الموسوس، يلزمه قطع مادة الوسواس عنه ، وعدم التفاته إلى التشكيك ، لأنه فعل الشيطان ، وقد أمرنا بمعاداته ومخالفته.
ولو شك في بعض وضوئه أعاده ، إلا إذا كان بعد الفراغ منه، أو كان الشك عادة له ؛ فإنه لا يعيده ، ولو قبل الفراغ، قطعا للوسوسة عنه" انتهى .
وقال علماء اللجنة الدائمة للإفتاء :
"علاج الوسوسة بكثرة ذكر الله جل وعلا ، وسؤاله العافية من ذلك ، وعدم الاستسلام للوسوسة ، فيجب عليه رفضها ، فإذا تطهر طهارة صغرى أو كبرى ، وحصلت عنده وسوسة في أنه لم يغسل رأسه -مثلا- : فلا يلتفت إلى ذلك ، بل يبني على أنه غسله .
وهكذا في سائر أعماله : يرفض الاستجابة للوسوسة؛ لأنها من الشيطان ، ويكثر من الاستعاذة بالله من الشيطان؛ لأنه الوسواس الخناس.
وبالله التوفيق وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم.
اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء
الشيخ عبد الله بن قعود ... الشيخ عبد الله بن غديان ... الشيخ عبد الرزاق عفيفي ... الشيخ عبد العزيز بن عبد الله بن باز" انتهى ، "فتاوى اللجنة الدائمة" (5/226) .
وسئل الشيخ ابن عثيمين رحمه الله :
إذا شك المصلي خلال قراءته للسورة أنه لم يأت بالفاتحة، ولم يترجح عنده أنه أتى بها أو لم يأت، فهل يأتي بالفاتحة دفعاً لهذا الشك، أو يستمر في السورة ويسجد للسهو لدفع الشك؟
فأجاب :
"يجب عليه أن يأتي بالفاتحة ما دام عنده شك، ولكن بشرط:
ألا يكون كثير الشكوك، فإن كان كثير الشكوك، أو كان الشك عنده مجرد وهم لا أصل له، فإنه لا يعتبر بهذا الشك؛ لأن بعض الناس كلما صلى شك في الزيادة، أو النقص، أو في النية، أو في التكبير وما أشبه ذلك، فإذا كان هذا شأنه في جميع صلواته فإنه لا يلتفت إلى هذا الشك؛ لأنه من الوسواس، والوسواس ربما يفسد على الإنسان عبادته إذا استمر معه" انتهى ، "مجموع فتاوى الشيخ ابن عثيمين" (14/72) .
والله أعلم .
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |