عنوان الفتوى : ما أوجه الإعجاز في قوله تعالى (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه)؟
قال تعالى: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ ۖ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ۖ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ اللَّهِ ۚ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ ۗ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىٰ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا ۚ وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ وَأُولَٰئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ ۖ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)) آمل توضيح الآية الكريمة.
الحمد لله.
إعجاز القرآن لا منتهى له
إعجاز القرآن لا منتهى له، لأنه كلام الحكيم الخبير، ونحن لا تتبين لنا وجوه البراعة في القرآن كلها لقصورنا عن مرتبة العرب الأوائل، قال "ابن عطية" في "المحرر الوجيز" (1/ 52): "والصحيح أن الإتيان بمثل القرآن لم يكن قط في قدرة أحد من المخلوقين، ويظهر لك قصور البشر في أن الفصيح منهم يصنع خطبة، أو قصيدة، يستفرغ فيها جهده، ثم لا يزال ينقحها حولا كاملا، ثم تعطى لآخر نظيره، فيأخذها بقريحة جامة، فيبدل فيها وينقح، ثم لا تزال كذلك فيها مواضع للنظر والبدل.
وكتاب الله لو نزعت منه لفظة، ثم أدير لسان العرب في أن يوجد أحسن منها لم يوجد.
ونحن تبين لنا البراعة في أكثره، ويخفى علينا وجهها في مواضع، لقصورنا عن مرتبة العرب يومئذ في سلامة الذوق وجودة القريحة وميز الكلام." انتهى.
من أوجه الإعجاز في قوله تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه)
ومما ظهر لنا بالبحث في الآية من أوجه البيان:
1- أن في قوله تعالى: (يسألونك عن الشهر الحرام قتالٍ فيه): قدم الشهر على القتال، ولم يقل "يسألونك عن القتال في الشهر"، لينبه أن السؤال لم يكن لأجل القتال نفسه، وإنما لأجل خصوص الشهر.
2- أن الله تعالى قال: (قل قتال فيه كبير) ولم يقل " القتال فيه كبير"، وشروط النكرة المذكورة: إذا أعيد ذكرها، أن يُعاد معرفًا نحو سألتني عن رجل، والرجل كذا وكذا؟
قيل: في ذكره منكرًا: تنبيه أن ليس كل القتال في الشهر الحرام هذا حكمه، فإن قتال النبي- عليه السلام- لأهل مكة لم يكن هذا حكمه.
3- والجملة استئناف ابتدائي، وردت على سؤال الناس عن القتال في الشهر الحرام، ومناسبة موقعها عقب آية (كتب عليكم القتال) البقرة/216 ظاهرة.
4- التعريف في (الشهر الحرام) تعريف الجنس، ولذلك أحسن إبدال النكرة منه في قوله: (قتال فيه).
5- وتنكير (قتال) مراد به العموم، إذ ليس المسئول عنه قتال معين، ولا في شهر معين، بل المراد هذا الجنس في هذا الجنس. و (فيه) ظرف صفة لقتال مخصصة له.
6- وقوله: (قل قتال فيه كبير) إظهار لفظ القتال في مقام الإضمار ليكون الجواب صريحا، حتى لا يتوهم أن الشهر الحرام هو الكبير، وليكون الجواب على طبق السؤال في اللفظ.
7- ولم يعرف لفظ القتال ثانيا باللام، مع تقدم ذكره في السؤال، لأنه قد استغنى عن تعريفه باتحاد الوصفين في لفظ السؤال ولفظ الجواب، وهو ظرف (فيه)، إذ ليس المقصود من تعريف النكرة باللام إذا أعيد ذكرها، إلا التنصيص على أن المراد بها تلك الأولى لا غيرها، وقد حصل ذلك بالوصف المتحد.
8- الجواب تشريع إن كان السؤال من المسلمين، واعتراف وإسكات، إن كان السؤال إنكارا من المشركين، لأنهم توقعوا أن يجيبهم بإباحة القتال، فيثوِّروا بذلك العرب، ومن في قلبه مرض.
9- والتفضيل في قوله: (أكبر) تفضيل في الإثم، أي: كل واحد من تلك المذكورات أعظم إثمًا.
10- "واعلم أن مقتضى ظاهر ترتيب نظم الكلام أن يقال: وصد عن سبيل الله وكفر به، وصد عن المسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله، فخولف مقتضى هذا النظم إلى الصورة التي جاءت الآية عليها؛ بأن قدم قوله (وكفر به)، فجعل معطوفا على (صد) قبل أن يستوفي صد ما تعلق به، وهو (والمسجد الحرام)...
والداعي إلى هذا الترتيب هو أن يكون نظم الكلام على أسلوب أدق من مقتضى الظاهر، وهو الاهتمام بتقديم ما هو أفظع من جرائمهم، فإن الكفر بالله أفظع من الصد عن المسجد الحرام، فكان ترتيب النظم على تقديم الأهم فالأهم، فإن الصد عن سبيل الإسلام يجمع مظالم كثيرة، لأنه اعتداء على الناس في ما يختارونه لأنفسهم، وجحد لرسالة رسول الله، والباعث عليه انتصارهم لأصنامهم: (أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب) [ص: 5]؛ فليس الكفر بالله إلا ركنا من أركان الصد عن الإسلام، فلذلك قدم الصد عن سبيل الله، ثم ثنى بالكفر بالله ليفاد بدلالة المطابقة بعد أن دل عليه الصد عن سبيل الله بدلالة التضمن، ثم عد عليهم الصد عن المسجد الحرام، ثم إخراج أهله منه.
ولا يصح أن يكون والمسجد الحرام عطفا على الضمير في قوله (به)؛ لأنه لا معنى للكفر بالمسجد الحرام، فإن الكفر يتعدى إلى ما يعبد، وما هو دين، وما يتضمن دينا.
على أنهم يعظمون المسجد الحرام، ولا يعتقدون فيه ما يسوغ أن يتكلف بإطلاق لفظ الكفر عليه على وجه المجاز".
11- (ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا) جملة معترضة، دعا إلى الاعتراض بها مناسبة قوله: (والفتنة أكبر من القتل)، لما تضمنته من صدور الفتنة من المشركين على المسلمين، وما تتضمنه الفتنة من المقاتلة التي تداولها المسلمون والمشركون، إذ القتال يشتمل على أنواع الأذى، وليس القتل إلا بعض أحوال القتال.
12- وتعليق الشرط بإن في قوله (إن استطاعوا): للدلالة على أن استطاعتهم ذلك، ولو في آحاد المسلمين: أمر مستبعد الحصول، لقوة إيمان المسلمين، فتكون محاولة المشركين، رد واحد من المسلمين؛ عناءً باطلًا.
13- وقوله: (وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون): عطف على جملة الجزاء على الكفر، إذ الأمور بخواتمها، فقد ترتب على الكفر أمران: بطلان فضل الأعمال السالفة، والعقوبة بالخلود في النار. ولكون الخلود عقوبة أخرى أعيد اسم الإشارة في قوله: (وأولئك أصحاب النار).
وفي الإتيان باسم الإشارة في الموضعين: التنبيه على أنهم أحرياء بما ذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما ذكر قبل اسم الإشارة. [1]
والله أعلم.
وينظر لمزيد الفائدة الإجابات عن الأشهر الحرم:
هل نسخ القتال في الأشهر الحرم؟
انفراد شهر رجب عن الأشهر الحرم
المراجع
- ^ تفسير الراغب الأصفهاني (1/ 446)."التحرير والتنوير" (2/ 324).