عنوان الفتوى : تفسير قوله تعالى: (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم).
جاء في الآية 146 من سورة البقرة: (الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ) وتفسيرها أن أهل الكتاب يعرفون النبي صلي الله عليه وسلم كما يعرفون أبنائهم، ويعرفون صدق رسالته، ثم جاء في الآية 110: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ ۚ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ۚ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ) وفي التفسير أن المشركين واليهود في شك من صدق القرآن مريب. فآمل توضيح الفئة المقصودة بكل آية، وبيان حال اليهود والنصارى تجاه النبي والقرآن، هل يصدقونه؟ أم في شك منه؟ أم إنهم ينكرونه من الأساس؟ وشكرا وأسال الله لكم العافية
الحمد لله.
أولًا:
تفسير قوله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ
يقول الله تعالى: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ البقرة/146، يَعْنِي النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما "قال ابن جريج"، وقَالَ أيضًا: "زَعَمَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِمَّنْ أَسْلَمَ، أَنَّهُمْ قَالُوا: وَاللَّهِ لَنَحْنُ أَعْرَفُ بِهِ مِنْ أَبْنَائِنَا؛ مِنْ أَجْلِ الصِّفَةِ وَالنَّعْتِ الَّذِي نَجِدُهُ فِي الْكِتَابِ، وَأَمَّا أَبْنَاؤُنَا: فَلَا نَدْرِي مَا أَحْدَثَ النِّسَاءُ". انظر: "تفسير الطبري" (9/ 187).
وقال "الراغب" في "تفسيره" (1/ 337):
"وقوله (يعرفونه) أي العلم الذي هو النبوة، المتقدم ذكرها في قوله (مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ).
وقيل: عنى النبي عليه السلام بقوله: (يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ).
وقيل: يعرفون أن التوجه إلى الكعبة حق.
واختلاف أقاويلهم، باختلاف نظراتهم إلى الألفاظ.
[و]من حيث المعنى: فإن معرفة الرسول عليه السلام، ومعرفة صدق قوله، وصحة ما يأمر به من أمر القبلة: متلازمة.
وإنما قال: (كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ)، ولم يقل أنفسهم، لأن الإنسان لا يعرف نفسه إلا بعد انقضاء برهة من دهره، ويعرف ولده من حين وجوده.
ثم في ذكر الابن، ما ليس في ذكر النفس؛ فابن الإنسان عصارة ذاته، ونسخة صورته.
وإنما قال: (لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ) ولم يقل يكتمونه، لأن في كتمان أمره، كتمانَ الحق جملة، وزاد في ذمهم بقوله: (وَهُمْ يَعْلَمُونَ)." انتهى.
وقال "ابن عطية" في "المحرر الوجيز" (1/ 223): "وخص الأبناء دون الأنفس، وهي ألصق، لأن الإنسان يمر عليه من زمنه برهة لا يعرف فيها نفسه، ولا يمر عليه وقت لا يعرف فيه ابنه." انتهى.
ثانيًا:
تفسير قوله تعالى: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ
أخبر سبحانه أيضًا أنهم يعرفون أن القرآن حق، كما قال: وَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ الأنعام/114.
وهذه الآيات في حق الأحبار والرهبان، لا في حق الجميع.
قال "الرازي في "تفسيره" (4/ 107)، قال: " (الذين آتيناهم الكتاب)، وإن كان عامًا بحسب اللفظ، لكنه مختص بالعلماء منهم.
والدليل عليه: أنه تعالى وصفهم بأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم، والجمع العظيم الذي علموا شيئًا، استحال عليهم الاتفاق على كتمانه في العادة، ألا ترى أن واحدًا لو دخل البلد، وسأل عن الجامع: لم يجز أن لا يلقاه أحد إلا بالكذب والكتمان، بل إنما يجوز ذلك على الجمع القليل، والله أعلم." انتهى.
وهذه المعرفة لم تنفعهم؛ لأنهم كفروا به، وجحدوا أمره.
قال ابن كثير: "يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم، كما يعرفون أبناءهم، كما يعرف أحدهم ولده، والعرب كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا...
قلت: وقد يكون المراد (يعرفونه كما يعرفون أبناءهم): من بين أبناء الناس، لا يشك أحد ولا يتمارى في معرفة ابنه إذا رآه، من بين أبناء الناس كلهم.
ثم أخبر تعالى أنهم، مع هذا التحقق والإتقان العلمي: (ليكتمون الحق)؛ أي: ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وهم يعلمون " انتهى من"تفسير ابن كثير" (1/ 462).
وقال: "قال مخبرا عن أهل الكتاب: إنهم يعرفون هذا الذي جئتهم به كما يعرفون أبناءهم، بما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين والأنبياء، فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد صلى الله عليه وسلم وببعثه وصفته، وبلده ومهاجره، وصفة أمته؛ ولهذا قال بعد هذا: الذين خسروا أنفسهم أي: خسروا كل الخسارة، فهم لا يؤمنون بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء، ونوهت به في قديم الزمان وحديثه"، انتهى من تفسير "تفسير ابن كثير"(3/ 245).
فالرسل جميعًا بشروا بمحمد صلى الله عليه وسلم، كما قال سبحانه عن عيسى عليه السلام: (وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ) الصف/6.
وفي "التفسير الوسيط - مجمع البحوث": "فالبشارة به - صلى الله عليه وسلم - كانت موجودة بوضوح في التوراة والإنجيل، وعلماء اليهود والنصارى يعرفونها حقًا، ولكنهم ينكرونها لمرض نفوسهم، إلا من عصمه الله منهم فآمن.
ونحن نعلم أنهم حرفوا الكتابين، وقاموا بطمس ما يتعلق بالنبي - صلى الله عليه وسلم - لتبقى فيهم السلطة الدينية.
... والأناجيل التي يعترفون بها، والتوراة التي بين أيدينا الآن، بقيت فيها إشارات عدة ترمز إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وقد عني بها كثير من الباحثين، وفي طليعتهم العلامة: رحمة الله الهندي، في كتابه: " إظهار الحق "، فارجع إليه إن شئت.
وذكرت الآية الذين يكتمون الحق وهم يعلمونه، ويستلزم هذا أن هناك فريقًا آخر، يعلم الحق ويعلنه ويؤْمن به ويؤَيده، ومن هذا الفريق: الصحابي الجليل عبد الله بن سلام، الذي كان من أحبار اليهود وأسلم، ونزل فيه قول الله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ.
ومن أحبار اليهود والنصارى الذين عرفوا الصفات النبوية، فآمنوا: زيد بن سعنة وتميم الداري، والجارود بن عبد الله، وإدريس بن سمعان.
ولإسلام كل من هؤُلاء قصة لا يتسع المقام لذكرها، وإسلامهم جميعًا يستند إلى صفات الرسول في التوراة والإنجيل." انتهى (1/ 222 - 223).
ثالثًا:
تفسير قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ
أما قوله تعالى: وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ هود/ 110، فمحتملة لعدة أقوال:
الأول:
"وَمَا كَانَ تَكْذِيبُهُمْ لَهُ عَنْ بَصِيرَةٍ مِنْهُمْ لِمَا قَالُوا، بَلْ كَانُوا شَاكِّينَ فِيمَا قَالُوا، غَيْرَ مُحَقِّقِينَ لِشَيْءٍ كَانُوا فِيهِ".
قال "ابن كثير": "هَكَذَا وَجَّهَهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وَهُوَ مُحْتَمِلٌ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ". انظر: "تفسير ابن كثير" (7/ 185).
فالشك إنما وقع منهم في تكذيبهم، واختلاف في الحق من بعد ما تبين لهم. وهذا لا يتعارض مع الآيات السابقة، سواءٌ أوقع الشك من أهل الكتاب أو من كفار مكة.
الثاني:
أن يكون الضمير في (منه) راجعًا إلى "التوراة".
ويكون المعنى كما قال "أبو حيان": "لما بين تعالى إصرار كفار مكة على إنكار التوحيد ونبوة الرسول والقرآن الذي أتى به، بين أن الكفار من الأمم السابقة كانوا على هذه السيرة الفاجرة مع أنبيائهم، فليس ذلك ببدع من عاصر الرسول صلى الله عليه وسلم، وضرب لذلك مثلًا وهو: إنزال التوراة على موسى فاختلفوا فيها.
والكتاب هنا التوراة، فقبله بعض، وأنكره بعض، كما اختلف هؤلاء في القرآن" انتهى من"البحر المحيط"(6/ 216).
وهذا لا يتعارض مع الآيات السابقة أيضًا.
الثالث:
أن يكون الضمير في (منه) راجع إلى القرآن، وأن يكون الضمير (وإنهم) راجعٌ إلى الكفار من المشركين، لا إلى علماء أهل الكتاب الذين كانوا يعرفون النبي صلى الله عليه وسلم بصفته. وعليه، فالمعنى: " كفار قومك لفي شك من هذا القرآن مريب "، انتهى، "تفسير الرازي"(18/ 405)، "تفسير أبي السعود"(8/ 17).
فتبين بذلك أنه لا إشكال في الآيتين، ولا تعارض بينهما بحال.
وينظر للفائدة: جواب السؤال رقم: (306253)، ورقم: (147416).
وينظر أيضا حول تحريف أهل الكتاب لكتبهم جواب السؤال رقم: (186196).
والله أعلم.