عنوان الفتوى : حكم تكفير غير المسلمين من أصحاب الرسالات السابقة

مدة قراءة السؤال : دقيقتان

جزاكم الله كل الخير في جهودكم بهذا الموقع المبارك. أما سؤالي -يا إخوة-: أناقش العديد من الناس حول تكفير النصارى، وتكفير كل من لم يكفرهم ويبغضهم، وقبل أن أستدل من القرآن، استدللت من قول ابن تيمية -رحمه الله-: (من لم يكفرهم ويبغضهم، فليس بمسلم باتفاق المسلمين، والجهل بذلك لا يعذر صاحبه فيه، بل هو كافر مرتد). فمنهم وقسم كبير أغلق النقاش، وبدأوا بذم ابن تيمية -قدس الله روحه-؛ حيث يقولون: إنه تكفيري، دموي، متطرف ... إلخ. وقالوا: إن النصارى يدخلون الجنة، أي: إذا النصراني اتبع سيدنا عيسى -عليه السلام- وتعبد ... وكان حسن الأخلاق و و و و إلخ من الصفات الحميدة، ولم يرتكب فواحش ومعاصي، يدخل الجنة!!!! وقلت له بشأن اتباع سيدنا عيسى -عليه السلام-: فكيف يتبع والإنجيل قد حرف؟! فقال: إن الإنجيل فيه عقيدة التوحيد وإن كان محرفًا. فأنا تعجبت كثيرًا حتى وصل الأمر لشجار بيني وبينه، وغرت على ديني كثيرًا كونه سوَّى ملة الكفر (النصرانية) مع ملة الإسلام من ناحية الأعمال والعبادات التي تؤدي بالعبد المسلم للجنة. لكنني توقفت عند جملة "فيه عقيدة التوحيد وإن كان محرفًا (الإنجيل)" كوني لا أعلم شيئًا فيه، ولن أعلم -إن شاء الله-. هل النصارى بشكل عام إذا قاموا باتباع سيدنا عيسى -عليه السلام- من الإنجيل مثلًا فعلًا يدخلون الجنة؟! لأنه أصر على هذا الرأي، واستدل بأحد العلماء بقول هذا الموضوع وكان اسمه: "ذاكر نايك" إندونيسي الجنسية.

مدة قراءة الإجابة : 7 دقائق

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:

فمن المعلوم أن أركان الإيمان وأصوله التي لا يقوم إلا بها، إذا تخلف أحدها لا يبقى من حقيقة الإيمان شيء، ومن ذلك الإيمان بالرسل والرسالات السماوية، فمن كفر برسول واحد أو رسالته، فلا ينفعه إيمانه ببقية الرسل والرسالات، بل لا يكون مؤمنًا بالله تعالى الذي أرسل هذا الرسول وأنزل رسالته؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا} [النساء: 150 - 152].
ومن المعلوم أن النصارى يكفرون بالقرآن، وبمن أُنزل عليه القرآن، وهو النبي الخاتم محمد -صلى الله عليه وسلم-، وهذا وحده كاف للحكم بكفرهم وضلالهم، حتى لو افترضنا أنهم لم يشركوا بالله تعالى، وأنهم عبدوا الله -عز وجل- على شريعة المسيح من غير تحريف، فما بالنا وهم مشركون مثلثون، ومبتدعون مبدلون. وراجع في تفصيل ذلك الفتاوى التالية أرقامها: 174733، 136005، 58035، 170755.
وأما ما يزعمه النصارى من التوحيد: فهو توحيد لفظًا لا معنى، لا يعدو المماحكة والهرطقة! فهم يقولون: إله واحد في ثلاثة أقانيم؛ قال حبيب سعيد في بيان عقيدة الثالوث عندهم: لا تعني عقيدة الثالوث أن لنا ثلاثة آلهة، بل إله واحد في ثلاثة أقانيم، وقد عبر عن هذه العقيدة أحسن تعبير قانون ماراثناسيوس: "الإيمان الجامع هو أن نعبد إلهًا واحدًا في ثالوث، وثالوثًا في وحدانية، ألا نخلط الأقانيم ولا نفصل الجوهر، فإن للأب أقنومًا على حدة، وللابن أقنومًا آخر، وللروح أقنومًا آخر، ولكن لاهوت الأب والابن والروح القدس كله واحد ومجد متساوو الجلال أبدى معًا ... الأب إله والابن إله والروح القدس إله، ولكن ليسوا ثلاثة آلهة بل إله واحد ... الأب رب والابن رب والروح القدس رب، ولكن ليسوا ثلاثة أرباب بل رب واحد ... الدين الجامع ينهانا عن أن نقول بوجود ثلاثة آلهة أو ثلاثة أرباب". اهـ.

وقد علق على ذلك الدكتور/ سعود الخلف في كتابه (دراسات في الأديان): والحق أنه من خلال الكلام السابق يتضح للناظر وجود ثلاثة أشخاص في عقيدة النصارى وضوحًا بينًا، وذلك لأنهم نصّوا على تميز كل واحد بمميزات خاصة. أما الوحدانية فهي مجرد دعوى غير واضحة، وهي الدعوى الغير معقولة في كلامهم، لأنهم زعموا أن الثلاثة واحد، وهذا ما لا يعقل. ويصدق عليهم في كلامهم السابق أنهم يعبدون ثلاثة آلهة، ويجعلونها ضمن مسمى واحد وهو (الله) وبناءً عليه يعتقدون أنهم موحدون. وهذا منهم ذر للرماد في العيون، لأن ذلك لا يخرجهم من أن يكونوا مشركين يعبدون آلهة مع الله، وهذا ما يحذره النصارى، ويحاولون أن يدفعوه عن أنفسهم بدعوى وحدانية الله، ولكن العاقل يستطيع أن يميز بين ما هو حقيقي وبين ما هو مجرد دعوى ... وقولهم في التثليث جمع بين الضدين لأن الوحدانية تنفي الشرك، والشرك ينفي الوحدانية، فلا يمكن أن تجتمع الوحدانية والشرك في مكان واحد، بل هما ضدان لا يجتمعان كالسواد والبياض. والنصارى يعتقدون اجتماعهما مخالفين بذلك الحس والعقل والنقل. اهـ.

وأما ما يُذكَر عن جواب الداعية ذاكر نايك لسؤال فتاة نصرانية: هل سأدخل الجنة أم سأدخل النار؟ فأجابها بقوله: "في رأيي: لو كنت مسيحية تتبعين تعاليم المسيح بحذافيرها فسوف تدخلين الجنة، ولكن هذا إن كنت تتبعين تعاليم المسيح حقًّا ...". فهذا لا يعني أن أحدًا يسعه أن لا يتبع النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم-، وما أنزل عليه من القرآن، وإنما المراد أن اتِّباع المسيح لا يكون إلا بالإيمان بمن بشَّر به المسيح، وأمر باتباعه عند بعثه، وهو النبي الخاتم -صلى الله عليه وسلم-، ولذلك قال الداعية ذاكر نايك بعدها: إن الإسلام هو الدين الوحيد الذي يجعل كل معتنقيه يؤمنون بالمسيح -عليه السلام-، ولا يكتمل إيمان المسلم إلا بالإيمان بالمسيح -عليه السلام-. اهـ.

وأما النصارى: فالحقيقة أنهم يتبعون الكنيسة لا المسيح، فالكنيسة ومجامعها وتعاليمها هي من يشكل العقيدة النصرانية المحرفة، ولذلك أشار ذاكر ضمن جوابه إلى أنه لا يعرف هل السائلة تتبع الكنيسة أم المسيح -عليه السلام-؟!

وأخيرًا: نلفت نظر السائل الكريم إلى أن مثل هذه المسائل البينة لا تحتاج في الحقيقة إلا إلى ذكر آيات القرآن البينات الدامغات، مع بيان معناها من كلام أهل العلم، ولا يستحسن أن تصدر مثل هذه المسائل بكلام العلماء، بل يكون القرآن في الصدارة، وكلام أهل العلم يوضحه ويشرحه، وليس كما قال السائل: (وقبل أن أستدل من القرآن، استدللت من قول ابن تيمية ... ).

ثم إن كلام شيخ الإسلام ابن تيمية الذي نقله السائل فيه زيادة غريبة، ليست من كلام شيخ الإسلام، وهي جملة: "والجهل بذلك لا يعذر صاحبه فيه، بل هو كافر مرتد". ولا ندري مصدرها الذي نقلها منه السائل!

ثم إننا ننبه السائل الكريم إلى الحذر من التصدي لمحاورة أهل الباطل ما لم تكن له قدم راسخة في العلم يستطيع بها دحض شبهاتهم. وراجع لمزيد الفائدة الفتوى رقم: 29347.

والله أعلم.