عنوان الفتوى : هل كان تصوير ذوات الأرواح مباحا ثم نسخ وهل يدخل النسخ العقيدة والتوحيد ؟
إن كانت إحدى علل التصوير والرسم هي المضاهاة، فإنها تنافي عقيدة التوحيد لله، فإذا لماذا لم تكن التصاوير محرمة في زمن الأنبياء السابقين، الشرائع قد تختلف إذا نسخت في الإسلام، لكن العقيدة واحدة ولا تختلف، فكيف تكون مباحة لهم؟
الحمد لله.
أولا:
العلة في تحريم تصوير ذوات الأرواح مركبة، فمنها مضاهاة خلق الله، ومنها سد الذريعة للافتتان بالصور، ومنها أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه صورة، وغير ذلك.
قال أبو بكر ابن العربي المالكي رحمه الله: "والذي أوجب النهي عنه في شرعنا، والله أعلم : ما كانت العرب عليه من عبادة الأوثان والأصنام، فكانوا يصورون ويعبدون، فقطع الله الذريعة وحمى الباب.
فإن قيل: فقد قال حين ذم الصور وعملها - من الصحيح - قول النبي - عليه السلام -: من صور صورة عذبه الله حتى ينفخ فيها الروح، وليس بنافخ. وفي رواية: الذين يشبهون بخلق الله؛ فعلل بغير ما زعمتم؟
قلنا: نهي عن الصورة، وذكر علة التشبيه بخلق الله، وفيها زيادة علة عبادتها من دون الله، فنبه على أن نفس عملها معصية، فما ظنك بعبادتها؟!
وقد ورد في كتب التفسير شأن يغوث ويعوق ونسرا، وأنهم كانوا أناسا، ثم صوروا بعد موتهم وعبدوا.
وقد شاهدت بثغر الإسكندرية إذا مات منهم ميت صوروه من خشب في أحسن صورة، وأجلسوه في موضعه من بيته، وكسوه بزته إن كان رجلا، وحليتها إن كانت امرأة، وأغلقوا عليه الباب.
فإذا أصاب أحدا منهم كرب، أو تجدد له مكروه: فتح الباب عليه، وجلس عنده يبكي، ويناجيه بكان وكان، حتى يكسر سَوْرة حزنه بإهراق دموعه، ثم يغلق الباب عليه، وينصرف عنه.
وإن تمادى بهم الزمان يعبدوها من جملة الأصنام والأوثان" انتهى من "أحكام القرآن" (4/ 9).
ثانيا:
ثبت في القرآن الكريم، أن "الجن" كانت تصنع "التماثيل" لسليمان عليه السلام، قال الله تعالى: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ سبأ/13.
والآية، وإن كانت ظاهرة في أنهم كانوا يصنعون له "التماثيل"، من غير تقييد ذلك بصورة ، دون صورة ؛ فإن النص ، مع ذلك "محتمل" لأن تكون هذه التماثيل صورا لغير ذوات الأرواح، فيتوافق ذلك مع ما تقرر في شرعنا من تحريم تصوير ذوات الأرواح .
وإذا قدر أن هذه "التماثيل" كانت صورة لذوات الأرواح، كما هو ظاهر اللفظ في "عمومه"، فقد نسخ ذلك في حق هذه الأمة، بما تقرر في الشريعة من تحريم ذلك.
قال ابن العربي رحمه الله في الموضع السابق: " التمثال على قسمين: حيوان وموات، والموات على قسمين: جماد ونام، وقد كانت الجن تصنع لسليمان جميعه، وذلك معلوم من طريقين: أحدهما عموم قوله: وتماثيل [سبأ: 13]. والثاني ما روي من طرق عديدة، أصلها الإسرائليات؛ لأن التماثيل من الطير كانت على كرسي سليمان.
فإن قيل: لا عموم لقوله: وتماثيل [سبأ: 13] فإنه إثبات في نكرة، والإثبات في النكرة لا عموم له؛ إنما العموم في النفي في النكرة حسبما قررتموه في الأصول.
قلنا: كذلك نقول، بيد أنه قد اقترن بهذا الإثبات في النكرة، ما يقتضي حمله على العموم، وهو قوله: ما يشاء [سبأ: 13] فاقتران المشيئة به، يقتضي العموم له.
فإن قيل: فكيف شاء عمل الصور المنهي عنها؟
قلنا: لم يرد أنه كان منهيا عنها في شرعه، بل ورد على ألسنة أهل الكتاب أنه كان أمرا مأذونا فيه" انتهى.
ثم عاد فقال: " إن قلنا: إن شريعة من قبلنا لا تلزمنا فليس ينقل عن ذلك حكم.
وإن قلنا: إن شرع من قبلنا شرع لنا فيكون نهي النبي - صلى الله عليه وسلم - عن الصور نسخا، وهي: المسألة الخامسة على ما بيناه في قسم الناسخ والمنسوخ قبل هذا.
وإن قلنا: إن الذي كان يُصنع له الصورُ المباحة من غير الحيوان وصورته، فشرعنا وشرعه واحد.
وإن قلنا: إن الذي حرم عليه ما كان شخصا، لا ما كان رقما في ثوب، فقد اختلفت الأحاديث في ذلك اختلافا متباينا بيناه في شرح الحديث" انتهى من "أحكام القرآن" (4/ 10).
وقال الإمام أبو محمد ابن عطية رحمه الله: " والتماثيل : قيل كانت من زجاج ونحاس، تماثيل أشياء ليست بحيوان.
وقال الضحاك كانت تماثيل حيوان، وكان هذا من الجائز في ذلك الشرع.
قال القاضي أبو محمد: ونسخ بشرع محمد صلى الله عليه وسلم.
وقال قوم: حرم التصوير لأن الصور كانت تعبد.
وحكى مكي في الهداية، أن فرقة كانت تُجوز التصوير، وتحتج بهذه الآية.
وذلك خطأ، وما أحفظ من أئمة العلم من يُجَوِّزه " انتهى من "المحرر الوجيز" (4/409).
وينظر: "روائع البيان في تفسير آيات الأحكام" للشيخ محمد علي الصابوني، رحمه الله (2/405-408).
ثم إذا قلنا إن ذلك التصوير، كان جائزا في شريعة سليمان عليه السلام، فيحتمل أن الرخصة فيه لم تكن عامة ، لجميع ( من قبلنا ) ؛ بل إما كانت هذه الرخصة خاصة بشريعة سليمان عليه السلام ، وتقرر تحريمه فيما سواها من الشرائع .
أو : أن الرخصة لم تبق إلى شريعتنا، حتى ابتدأ فيها نسخ الإباحة ، وتقرر التحريم ، بل جاء ما يدل على أن هذه التصاوير كانت محرمة قبل شرعنا أيضا .
ويحتمل أن الرخصة في التصاوير، إنما كانت لغير ذوات الأرواح ، على ما سبق ذكر من قاله من أهل العلم.
فروى البخاري (434)، ومسلم (528) عَنْ عَائِشَةَ : " أَنَّ أُمَّ سَلَمَةَ ذَكَرَتْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَنِيسَةً رَأَتْهَا بِأَرْضِ الْحَبَشَةِ يُقَالُ لَهَا مَارِيَةُ فَذَكَرَتْ لَهُ مَا رَأَتْ فِيهَا مِنْ الصُّوَرِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أُولَئِكَ قَوْمٌ إِذَا مَاتَ فِيهِمْ الْعَبْدُ الصَّالِحُ أَوْ الرَّجُلُ الصَّالِحُ بَنَوْا عَلَى قَبْرِهِ مَسْجِدًا وَصَوَّرُوا فِيهِ تِلْكَ الصُّوَرَ أُولَئِكَ شِرَارُ الْخَلْقِ عِنْدَ اللَّهِ ".
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" وقد استُشكل كون الملائكة لا تدخل المكان الذي فيه التصاوير، مع قوله سبحانه وتعالى، عند ذكر سليمان عليه السلام: يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ .
وقد قال مجاهد: كانت صورا من نحاس. أخرجه الطبري.
وقال قتادة: كانت من خشب ومن زجاج. أخرجه عبد الرزاق.
والجواب: أن ذلك كان جائزا في تلك الشريعة، وكانوا يعملون أشكال الأنبياء والصالحين منهم، على هيئتهم في العبادة، ليتعبدوا كعبادتهم.
وقد قال أبو العالية لم يكن ذلك في شريعتهم حراما، ثم جاء شرعنا بالنهي عنه.
ويحتمل أن يقال: إن التماثيل كانت على صورة النقوش لغير ذوات الأرواح، وإذا كان اللفظ محتملا، لم يتعين الحمل على المعنى المشكِل.
وقد ثبت في الصحيحين، حديث عائشة في قصة الكنيسة التي كانت بأرض الحبشة، وما فيها من التصاوير، وأنه صلى الله عليه وسلم قال: كانوا إذا مات فيهم الرجل الصالح بنوا على قبره مسجدا ، وصوروا فيه تلك الصورة ؛ أولئك شرار الخلق عند الله ؛ فإن ذلك يشعر بأنه لو كان ذلك جائزا في ذلك الشرع ، ما أطلق عليه صلى الله عليه وسلم أن الذي فعله شر الخلق ، فدل على أن فعل صور الحيوان فعل محدث ، أحدثه عباد الصور والله أعلم" انتهى، من "فتح الباري" (10/382).
ثالثا:
وعلى القول بأن التصوير كان مباحا فيما سبق ؛ فليس كل ما ينافي العقيدة لا يدخله النسخ، فإن "المنافي للعقيدة" يدخل تحته صور كثيرة، وقد كان سجود التحية مشروعا فيما قبلنا ثم حرم في شريعتنا، وكان الصحابة يقولون: ما شاء الله وشاء محمد، ثم نُهوا عن ذلك، وكانوا يحلفون بآبائهم، ثم نهوا عن ذلك. وهذه أمور تنافي العقيدة.
روى أحمد (23339)، وابن ماجه (2118) واللفظ له عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ :" أَنَّ رَجُلًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَأَى فِي النَّوْمِ أَنَّهُ لَقِيَ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، فَقَالَ: نِعْمَ الْقَوْمُ أَنْتُمْ لَوْلَا أَنَّكُمْ تُشْرِكُونَ، تَقُولُونَ: مَا شَاءَ اللَّهُ وَشَاءَ مُحَمَّدٌ، وَذَكَرَ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَمَا وَاللَّهِ، إِنْ كُنْتُ لَأَعْرِفُهَا لَكُمْ، قُولُوا: مَا شَاءَ اللَّهُ، ثُمَّ شَاءَ مُحَمَّدٌ ".
والحديث صححه الألباني في "صحيح ابن ماجه"، وشعيب الأرنؤوط في تحقيق المسند.
ولفظ أحمد: " فقال النبي صلى الله عليه وسلم: قد كنت أكرهها منكم، فقولوا: ما شاء الله ثم شاء محمد ".
وفي "تيسير العزيز الحميد"، ص513 في الجواب عن قول النبي صلى الله عليه وسلم: (أفلح وأبيه إن صدق):
" الرابع: أن هذا كان في أول الأمر ثم نسخ، فما جاء من الأحاديث فيه ذكر شيء من الحلف بغير الله، فهو قبل النسخ، ثم نسخ ذلك ونهي عن الحلف بغير الله. وهذا الجواب ذكره الماوردي. قال السهيلي: أكثر الشراح عليه، حتى قال ابن العربي: روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يحلف بأبيه، حتى نهي عن ذلك. قال السهيلي: ولا يصح ذلك، وكذلك قال غيرهم.
وهذا الجواب هو الحق، يؤيده أن ذلك كان مستعملاً شائعًا، حتى ورد النهي عن ذلك كما في حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب يسير في ركب يحلف بأبيه فقال: (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفًا فليحلف بالله أو ليصمت) رواه البخاري، ومسلم. وعنه أيضًا قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفًا فلا يحلف إلا بالله). وكانت قريش تحلف بآبائها فقال: (ولا تحلفوا بآبائكم) رواه مسلم. وعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: حلفت مرة باللات والعزى، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (قل : لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ثم انفث عن يسارك ثلاثًا وتعوذ ولا تعد) رواه النسائي، وابن ماجه، وهذا لفظه.
وفي هذا المعنى أحاديث. فما ورد فيه ذكر الحلف بغير الله، فهو جار على العادة قبل النهي؛ لأن ذلك هو الأصل حتى ورد النهي عن ذلك" انتهى.
والنسخ لا يدخل أصل التوحيد، بخلاف هذه الفروع.
قال الشوكاني رحمه الله في بيان شروط النسخ: " السابع: أن يكون مما يجوز نسخه، فلا يدخل النسخ أصل التوحيد؛ لأن الله سبحانه بأسمائه وصفاته لم يزل ولا يزال، ومثل ذلك ما علم بالنص أنه يتأبد ولا يتأقَّت.
قال سليم الرازي: وكل ما لا يكون إلا على صفة واحدة، كمعرفة الله، ووحدانيته، ونحوه، فلا يدخله النسخ، ومن ههنا يعلم أنه لا نسخ في الأخبار؛ إذ لا يتصور وقوعها على خلاف ما أخبر به الصادق.
وكذا قال إلكيا الطبري، وقال: الضابط فيما يُنسخ: ما يتغير حاله من حُسن إلى قبح" انتهى من "إرشاد الفحول" (2/ 55).
وقال الشيخ عبد العزيز الراجحي حفظه الله: "النسخ لا يدخل العقائد ولا الأخبار، وإنما يكون في الأحكام ، فالشرك الأكبر لا يدخله النسخ ، وكذلك التوحيد ، لكن الشرك الأصغر يدخله النسخ ، مثل الحلف بغير الله كان جائزا في أول الاسلام ثم نهى عنه" انتهى من "تقييد الشوارد من القواعد والفوائد" ص72.
والحاصل:
أن النسخ لا يدخل في باب "الأخبار"، بصفة عامة ، كما قرره الأصوليون. ولا يدخل في أصول التوحيد.
وما كان من فروع "المنهيات" و"الأوامر": التي لها تعلق بالعقائد، وليست من أصولها، فهذه قد يدخلها النسخ، ومن ذلك حكم التصوير، و"صنع التماثيل" على التفصيل السابق في الجواب.
والله أعلم.
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |