عنوان الفتوى : لماذا كان الأنبياء أفضل البشر مع أنهم معصومون من الكبائر؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

في عقيدتنا الأنبياء معصومون عن الكبائر التي بها أكثر الشهوات التي يقع بها كثير من البشر، ومادام الأمر هكذا، فلماذا أجرهم أعظم من أجر كل البشر ؟ أعلم أن الله عادل، ولكني أريد أن افهم .

مدة قراءة الإجابة : 10 دقائق

الحمد لله.

أولا:

عصمة الأنبياء

الأنبياء معصومون من الكبائر كالزنا والسرقة، ومن الصغائر التي تدل على الخسة.

وقد يقع منهم الخطأ من الصغائر التي لا تدل على الخسة، لكن لا يقرُّون على ذلك، بل يتداركهم الله تعالى وينبههم عليه فيعودون عنه.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " إن القول بأن الأنبياء معصومون عن الكبائر، دون الصغائر: هو قول أكثر علماء الإسلام، وجميع الطوائف... وهو أيضا قول أكثر أهل التفسير والحديث والفقهاء، بل لم يُنقل عن السلف والأئمة والصحابة والتابعين وتابعيهم إلا ما يوافق هذا القول " انتهى من "مجموع الفتاوى" (4/ 319).

 

وقال في "منهاج السنة النبوية" (1/ 472): "وعامة الجمهور الذين يجوزون عليهم الصغائر يقولون: إنهم معصومون من الإقرار عليها".

وينظر "مجموع الفتاوى" (4/ 320)، (51/15)

وقال السفاريني رحمه الله: " قال القاضي عياض: أجمع المسلمون على عصمة الأنبياء من الفواحش والكبائر الموبقات، قال: وقد ذهب بعضهم إلى عصمته من مواقعة المكروه قصدا. انتهى.

وقال العلامة السعد التفتازاني: وفي عصمتهم من سائر الذنوب تفصيل، وهو أنهم معصومون عن الكفر، قبل الوحي وبعده بالإجماع، وكذا عن تعمد الكبائر عند الجمهور، خلافا للحشوية، وإنما الخلاف في أن امتناعه بدليل السمع أو العقل.

وأما سهوا: فجوزه الأكثرون.

قال: وأما الصغائر: فتجوز عمدا عند الجمهور، خلافا للجبائي وأتباعه. وتجوز سهوا بالاتفاق، إلا ما يدل على الخسة، كسرقة لقمة، والتطفيف بحبة. لكن المحققين شرطوا: أن يُنهوا عنه، فينتهوا منه" انتهى من "لوامع الأنوار البهية" (2/ 305).

ثانيا:

هل عصمة الأنبياء تعني أن الذنب ممتنع منهم؟

عصمة الأنبياء لا تعني أن الذنب ممتنع منهم، أو أنهم مجبورون، أو سُلبوا القدرة على المعصية، وإن كان هذا قد ورد في تعريف العصمة للبعض، لكنه ليس صحيحا.

قال الإيجي في"شرح المواقف" (8/ 306):  وقال قوم: هي - العصمة - (تكون خاصية في نفس الشخص، أو في بدنه، يمتنع بسببها صدور الذنب عنه.

ويُكذبه) - أي هذا القول -: (أنه لو كان) صدور الذنب (كذلك) - أي: ممتنعا - ( لما استحق المدح بذلك )؛ أي: بترك الذنب؛ إذ لا مدح ولا ثواب بترك ما هو ممتنع، لأنه ليس مقدورا داخلا تحت الاختيار.

(وأيضا: فالإجماع) منعقد (على أنهم) - أي: الأنبياء - (مكلفون بترك الذنوب، مثابون به؛ ولو كان الذنب ممتنعا عنهم، لما كان) الأمر (كذلك)؛ إذ لا تكليف بترك الممتنع، ولا ثواب عليه...

( وأيضا: فقوله تعالى: (قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي): يدل على مماثلتهم لسائر الناس فيما رجع إلى البشرية، والامتيازُ بالوحي، لا غير)؛ فلا يمتنع صدور الذنب عنهم، كما عن سائر البشر" انتهى.

وقرر الشهاب الخفاجي نحو ذلك أيضا. قال: " لو كان كذا، ما استحق المدح والثواب؛ لأنها ليست داخلة تحت الاختيار، وهم مكلفون بالاتفاق".

ثم عرّف العصمة بقوله: " لُطف من الله تعالى، يحمله على فعله [أي الخير]، ويزجره عن الشر؛ مع بقاء الاختيار، تحقيقاً للابتلاء" انتهى من "نسيم الرياض في شرح شفاء القاضي عياض" (4/ 39).

فالأنبياء يتركون المعاصي باختيارهم، وهم أكمل الخلق في تحرزهم وتوقيهم من هذه المعاصي، مع إمداد الله لهم وعونه، وتوفيقهم إياهم لذلك وهو المراد بالعصمة.

ولهذا فهم مثابون ممدوحون على عدم الوقوع في المعصية، كما قال تعالى في شأن يوسف عليه السلام: قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ يوسف/23، 24.

ثالثا:

الأنبياء أكمل الناس في البعد عن الشهوات

الشهوات المتعلقة بالصغائر كثيرة جدا، كالنظر والاستمتاع والخلوة المحرمة ومقدمات الفاحشة.

والأنبياء والصالحون: هم أكمل الناس في البعد عن هذه الشهوات المحرمة.

وأكثر الناس قد لا يقع في الزنا والسرقة وشرب الخمر والقتل، لكنه يضعف أمام الصغائر من شهوات وغيرها، فظهر بذلك فضل الأنبياء في هذا الجانب، أيضا.

وأما الطاعات، وتبليغ الدين، والجهاد في سبيل الله، وبذل النفس والنفيس في ذلك، فلا مقارنة فيه بين الأنبياء وغيرهم.

ومقام الدعوة والجهاد، وتحمل الأذى فيهما، لا يعرف قدره ومشقته إلا من ذاق شيئا منه.

وتأمل ما روى أحمد (12212)، والترمذي (2472)، وابن ماجه (151) عَنْ أَنَسٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:  لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ؛ إِلَّا شَيْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ  .

وانظر إلى كمال عبادة النبي صلى الله عليه وسلم، وقيامه وتهجده حتى تتورم قدماه، مع أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر.

وهذا كمال آخر، وهو أن يبلغ إنسان أعلى مقامات العبادة ويستمر على ذلك مع علمه أنه قد غُفر له!

ثم ما يقوم بالقلب من المحبة والتعظيم والإخبات والخوف والرجاء، وسلامة الصدر، هو سر التفضيل الأعظم، ولهذا كان أبو بكر الصديق أفضل هذه الأمة بعد نبيها، لما قام بقلبه من العبودية.

قال ابن رجب الله: " ولم يكن أكثرُ تطوع النبي صلى الله عليه وسلم وخواص أصحابه بكثرة الصوم والصلاة، بل ببر القلوب وطهارتها وسلامتها وقوة تعلقها بالله خشية له ومحبة وإجلالا وتعظيما ورغبة فيما عنده وزهدا فيما يفنى.

وفي المسند عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني أعلمكم بالله، وأتقاكم له قلبا).

قال ابن مسعود رضي الله عنه لأصحابه: أنتم أكثر صلاة وصياما من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا خيرا منكم. قالوا: ولم؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا، وأرغب في الآخرة.

وقال بكر المزني: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صيام ولا صلاة؛ ولكن بشيء وقر في صدره.

قال بعض العلماء المتقدمين: الذي وقر في صدره هو حب الله، والنصيحةُ لخلقه.

وسئلت فاطمة بنت عبد الملك زوجة عمر بن عبد العزيز بعد وفاته عن عمله؟

فقالت: والله ما كان بأكثر الناس صلاة ولا بأكثرهم صياما، ولكن والله ما رأيت أحدا أخوف لله من عمر، لقد كان يذكر الله في فراشه، فينتفض انتفاض العصفور من شدة الخوف، حتى نقول: ليصبحن الناس ولا خليفة لهم" انتهى من "لطائف المعارف"، ص254

فهذه العبادات القلبية هي أس التقوى، ومجال التفاضل، وهي أعظم وأوسع من مجال الأعمال الظاهرة.

ثم إن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء، كما قال تعالى:  قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ  آل عمران/73، 74.

وقال:  وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ  القصص/68.

وقال:  اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ  الحج/75.

وقال:  وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ  الأنعام/124.

فالأنبياء اختارهم الله تعالى واصطفاهم، وهو أعلم بمن يستحق الاصطفاء والاختيار، وهم قد بلغوا أعلى درجات العبودية، وأسمى مراتب الأخلاق، وأعظم أبواب التضحية، فلا يصل إلى درجتهم أحد؛ ولم يبلغ الأنبياء تلك المقامات لأجل أنهم منعوا من المعاصي، منعا جبريا، بل حباهم الله بعصمته، ولطفه وفضله؛ لأنهم خير الناس، وأتقى الناس، وأعلم الناس بالله، وأعظمهم هيبة وإجلالا له، وأقومهم بأمره، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.

وصدق الله العظيم، إذ قال:  وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ  الأنعام/53.

والله أعلم.