عنوان الفتوى : مدى صحة ديوان علي بن أبي طالب رضي الله عنه؟
ما صحة الأشعار المنسوبة للخليفة علي بن أبي طالب التي في كتاب "ديوان أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم الله وجهه " ؟
الحمد لله.
الديوان المنسوب إلى الخليفة الراشد علي رضي الله عنه، لا يحتوي على أي دليل على نسبته إليه؛ وإنما عامة أبياته مجموعة من كتب الأدب والأسمار والمواعظ خالية من أسانيد تثبت نسبتها إلى علي رضي الله عنه، وكثير منه يستبعد نسبته إليه، وهذا الحكم هو الذي تتابع عليه الباحثون والدّارسون لهذا الديوان.
قال خير الدين الزركلي:
" أما ما يرويه أصحاب الأقاصيص من شعره وما جمعوه وسموه " ديوان علي بن أبي طالب ": فمعظمه، أو كله : مدسوس عليه " انتهى من "الأعلام" (4 / 296).
وعلّق على هذا الكلام الأستاذ عبد الرحمن المصطاوي أحد الذين اعتنوا بطباعة هذا الديوان؛ حيث قال:
" لعل كلمة الزركلي هذه في شعره رضي الله عنه هي الأقرب إلى الحقيقة، ذلك لأن معظم شعره رضي الله عنه منسوب إليه، أو منحول كما يقول نَقَدة الشعر العربي.
وتصفّح أي طبعة من طبعات الديوان – غير هذه – تجد عبارة : وينسب إليه، أو مما ينسب إليه، ونحو ذلك.
ثم إن كثيرا من الأشعار المنسوبة إليه تجدها في ديوان الإمام الشافعي رضي الله عنه، وغيره، ولم أتتبع هذا، لأن ذلك لا يحصّل منه كبير فائدة.
وإنك واجد في شعره المنسوب اختلافات كثيرة، من زيادة في عدد بعض الأبيات، واختلاف النفس والأسلوب هو خير دليل على أن واضع الشعر غير واحد " انتهى من "ديوان علي بن أبي طالب" ( ص 10 – 11).
وقال الأستاذ جواد علي:
" ويروى لعلي بن أبي طالب شعر كثير، ولا يوجد شك في أن عليا كان مطبوعا على قول الشعر، وأنه كان ذا شاعرية، وله مواهب تؤهله لنظمه، كما كان من الحفاظ للشعر، وقد أورد له أهل الأخبار والأدب شعرا ذكروه في المواضع المناسبة، كما جمع بعض الأدباء شعره في ديوان، فهو صاحب شعر، نظم في المناسبات.
غير أنه لم يكن شاعرا بمعنى أنه اتخذ الشعر صناعة له، وإنما كان يقوله في المناسبة، ثم إن في المنسوب إليه، شعرا كثيرا، هو موضوع، صنع وحمل عليه. وأكثر ما جاء في الديوان الذي يحمل اسمه هو من هذا القبيل.
ونظرا إلى ما لعلي بن أبي طالب من المكانة في نفوس المسلمين، ولوجود شيعة له، فقد اهتم الناس بأمر ديوانه، وشرحوه شروحا عديدة، وترجموه إلى لغات مختلفة، وطبع جملة طبعات، بحيث نستطيع أن نقول دون مبالغة، إن ديوان "علي" نال من المكانة والتقدير، ما لم ينله أي ديوان آخر، ليس لما فيه من شعر أو من بلاغة، بل لحرمة ولمكانة صاحبه، ففي هذا الديوان غث كثير، وفيه ما لا يمكن إرجاعه إلى "علي" أبدا.
قال "أبو عثمان" المازني: لم يصح عندنا أن عليا تكلم من الشعر إلا هذين البيتين:
تلكم قريش تمناني لتقتلني ... فلا وربك ما برّوا وما ظفروا
فإن هلكت فرهن ذمتي لهم ... بذات روقين لا يعفو لها أثر " انتهى من " المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام " (18 / 267).
على أنه قد ثبت ، مسندا ، مسندا : عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، أنه أجاب مرحبا ـ ملك خيبر ، بأرجاز ، لما خرج له ليبارزه ، إن قلنا بالقول المشهور: إن "الرجز" شعر، وفيه خلاف معروف عند أهل الأدب.
فروى مسلم في صحيحه ، في قصة "غزوة خيبر" (1807) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
( لَأُعْطِيَنَّ الرَّايَةَ رَجُلًا يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ) - أَوْ (يُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ) -.
قَالَ: "فَأَتَيْتُ عَلِيًّا، فَجِئْتُ بِهِ أَقُودُهُ وَهُوَ أَرْمَدُ، حَتَّى أَتَيْتُ بِهِ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَبَسَقَ فِي عَيْنَيْهِ فَبَرَأَ وَأَعْطَاهُ الرَّايَةَ، وَخَرَجَ مَرْحَبٌ، فَقَالَ:
قَدْ عَلِمَتْ خَيْبَرُ أَنِّي مَرْحَبُ ... شَاكِي السِّلَاحِ بَطَلٌ مُجَرَّبُ
إِذَا الْحُرُوبُ أَقْبَلَتْ تَلَهَّبُ
فَقَالَ عَلِيٌّ:
أَنَا الَّذِي سَمَّتْنِي أُمِّي حَيْدَرَهْ ... كَلَيْثِ غَابَاتٍ كَرِيهِ الْمَنْظَرَهْ
أُوفِيهِمُ بِالصَّاعِ كَيْلَ السَّنْدَرَهْ
قَالَ: فَضَرَبَ رَأْسَ مَرْحَبٍ فَقَتَلَهُ، ثُمَّ كَانَ الْفَتْحُ عَلَى يَدَيْهِ ".
قال إمام الأدب، المحقق: عبد القادر البغدادي رحمه الله :
" وَاعْلَم أَن الْعلمَاء قد اخْتلفُوا فِي الشّعْر الْمَنْسُوب إِلَى عَليّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه . قَالَ الْمَازِني: إِنَّه لم يَصح أَنه عَلَيْهِ السَّلَام تكلم بشيٍ من الشّعْر غير هذَيْن الْبَيْتَيْنِ. وَصَوَّبَهُ الزَّمَخْشَرِيّ وهما:
تلكم قُرَيْش تمناني لتقتلني ... فَلَا وَرَبك مَا بروا وَلَا ظفروا
فَإِن هَلَكت فرهنٌ ذِمَّتِي لَهُم ... بِذَات ودقين لَا يعْفُو لَهَا أثرُ
كَذَا قَالَ صَاحب الْقَامُوس. وَفسّر ذَات ودقين بالداهية ، قَالَ: كَأَنَّهَا ذَات وَجْهَيْن. وودقين بِفَتْح الْوَاو وَسُكُون الدَّال وَفتح الْقَاف.
وَيرد على الْمَازِني والزمخشري : مَا نَقَلْنَاهُ آنِفا عَن ثَعْلَب من كَون الروَاة لم يَخْتَلِفُوا فِي الرجز الَّذِي مِنْهُ الْبَيْت الشَّاهِد [ وهو ما نقلناه عن صحيح مسلم آنفا ] : أَنه لَهُ عَلَيْهِ السَّلَام . وَيُؤَيِّدهُ أَنه مذكورٌ فِي جَمِيع كتب السّير والمغازي. " انتهى من "خزانة الأدب" (6/70).
وقال الإمام السيوطي : " وقال المرزباني في (تاريخ النحاة) : قال يونس : ما صح عندنا ، ولا بلغنا أن عليّ ابن أبي طالب قال شعرا ؛ إلا هذين البيتين:
تلكم قريش تمنّتني لتقتلني * فلا وربّك ما برّوا وما ظفروا
فإن هلكت فرهن ذمّتي لهم * بذات روقين لا يعفو لها أثر
وقال وكيع في (الغرر): حدثني ثعلب، عن ابن الأعرابي قال:
يصح أن عليا رضي الله عنه قال من الشعر:
تلكم قريش ... فذكر البيتين.
وقال: حدثنا أبو عبد الله محمد ابن اسحق، حدثنا عبد الرحمن بن يحيى بن سعيد الغرري عن إسرائيل بن يونس عن أبي اسحق عن الحارث قال: ذكر علي رضي الله عنه أمورا تكون ثم أتبعها أبيات شعر..." .
فذكر البيتين المذكورين، في جملة قصيدة أطول:
لا يدخل النّار عبد مؤمن أبدا … ولا يقول ذوو الألباب لا قدر
ولا أقول لقوم إنّ رازقهم … غير الإله وإن برّوا وإن فجروا
الله يرزق من يدعو له ولدا … والمشركين ويوم البعث ينتصر
تلكم قريش تمنّتني لتقتلني … فلا وربّك ما برّوا وما ظفروا
فإن هلكت فرهن ذمّتي لهم … بذات روقين لا يعفو لها أثر
أمّا ثقيف فإنّي لست متّخذا … أهلا ولا شيعة في الدّين إذ كفروا
إن بايعوني فلا يوفوا ببيعتهم … وماكروني والأعداء إذ مكروا
وقلّصوا لي عن حرب مشمّرة … ما لم يلاق أبو بكر ولا عمر
وفي ليالي من شهري ربيعهم … وفي جمادى إذا ما صرّحوا عبر
وسوف يأتيك عن أنباء ملحمة … بالشّام يبيضّ من نكرائها الشّعر
عدوا إذا ما التقى في المرج جمعهم … على قضاعة بل تشقى بها مضر
وسوف يبعث مهديّ بسنّته … فينشر الوحي والدّين الّذي قهروا
وسوف يعمل فيهم بالقصاص كما … كانوا يدينون أهل الحقّ إن قدروا
انظر: "شرح شواهد المغني"، للسيوطي(2/521-522).
والذي يظهر أنه لا يثبت منها سوى البيتين المشهورين عند أهل العلم، والباقي من تزيد الرواة، ونسجهم على منوالها.
على أنه يتحصل من ذلك كله :
أن أئمة الأدب متفقون على قلة، بل ندرة ما بلغنا مما ينسب إلي علي رضي الله عنه من الشعر والرجز، وأن غاية ما استدركه الإمام عبد القادر البغدادي، وهو من هو في سعة اطلاعه، وعظيم استقصائه: هو هذا الرجز المذكور في قصة خيبر. فما عسى أن يستدرك غيره ؟ وهب أن غيره استدرك، فكم يصح له، ويصفو عن الغلط والانتحال؟!
وراجع جواب السؤال رقم :(105474)، ورقم :(10174) في النهي عن تخصيص علي رضي الله عنه بعبارة "كرم الله وجهه".
والله أعلم.