عنوان الفتوى : هل صح أن الإمام مالك كان يغني في صغره ؟ وهل حملت به أمه أكثر من سنة ؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

هل صحيح أن الإمام مالك كان يريد أن يصبح مغنيا في صغره ؟ وهل صحيح أن أمه حملته لأكثر من سنة ؟ وهل صحيح أنه كان شديد البياض أشقر ذو أعين زرقاء ؟

مدة قراءة الإجابة : 10 دقائق

الحمد لله

أولًا:

سبق في موقعنا ذكر نبذة عن حياة الإمام مالك رحمه الله ، في جواب السؤال رقم : (119256).

وفيها أن الإمام مالك كان أشقر ، حسن الوجه .

وجاء في "سير أعلام النبلاء" (8/ 69) : " عن عيسى بن عمر ، قال : ما رأيت قط بياضًا ، ولا حمرة؛ أحسن من وجه مالك ، ولا أشد بياضَ ثوبٍ من مالك.

ونقل غير واحد: أنه كان طوالا ، جسيما ، عظيم الهامة ، أشقر ، أبيض الرأس واللحية ، عظيم اللحية ، أصلع ، وكان لا يُحفي شاربه ، ويراه مُثْلة [أي : كان لا يحلقه بالموسى ، وإنما كان يكتفي بقصه] .

وقيل : كان أزرق العين ، روى بعض ذلك : ابن سعد ، عن مطرف بن عبد الله " انتهى.

ثانيًا:

أما ما زُعم من أنه كان مغنيًا في صغره ؛ فقد جاء ذلك في "كتاب الأغاني" لأبي الفرج الأصبهاني (4/ 159) : " أخبرني محمد بن عمرو العتابي ، قال : حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان - ولم أسمعه أنا من محمد بن خلف - ، قال : حدثني إسحاق بن محمد بن أبان الكوفي ، قال : حدثني حسين بن دحمان الأشقر قال : كنت بالمدينة فخلا لي الطريق وسط النهار، فجعلت أتغنى : ( ما بالُ أهلكِ يا رَبابُ ... خُزْراً كأنّهم غِضابُ ).

قال : فإذا خوخة قد فُتِحَتْ ، وإذا وجه قد بدا تتبعه لحية حمراء ، فقال : يا فاسق أسأتَ التأدية ، ومنعتَ القائلة ، وأذعتَ الفاحشة ، ثم اندفع يغنيه ، فظننت أن طُوَيْسًا قد نشر بعينه ، فقلت له : أصلحك الله من أين لك هذا الغناء ؟

فقال : نشأت وأنا غلام حدث أتبع المغنين وآخذ عنهم ، فقالت لي أمي : يا بني ، إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يُلْتَفَتْ إلى غنائه ، فدع الغناء واطلب الفقه ؛ فإنه لا يضر معه قبح الوجه ، فتركت المغنين واتبعت الفقهاء ، فبلغ الله بي عز وجل ما ترى .

فقلت له : فَأَعِدْ جعلت فداءك ، قال : لا ، ولا كرامة أتريد أن تقول أخذته عن مالك بن أنس ، وإذا هو مالك بن أنس ، ولم أعلم ".

وبالنظر إلى إسناد القصة نجد أن مدارها على إسحاق بن محمد النخعي ؛ وهو كذاب وضاع من الزنادقة ، تنسب إليه الفرقة الإسحاقية الذين يقولون بألوهية علي بن أبي طالب – رضي الله عنه.

قال الذهبي : " إِسْحَاق بْن محمد بْن أَحْمَد بْن أبان النَّخعيّ . أبو يعقوب الكُوفيُّ... وكان من غُلاةِ الرّافضة الَّذِي تُنْسب إليه الإسحاقيَّة الّذين يقولون : عليّ هُوَ الله تعالي ، فتعالى الله عما يقولون عُلُوًّا كبيرًا " انتهى من "تاريخ الإسلام" تحقيق بشار (6/ 514).

وقد صرَّح الحافظ ابن حجر العسقلاني في ترجمة هذا الكذاب ، أنه هو الذي اختلق قصة غناء الإمام مالك ، فقال مبينًا سبب الترجمة له في كتابه، مع أنه زنديق : " واعتذار المصنف عن أئمة الجرح عن ترك ذكره، بكونه زنديقا: ليس بعذر ؛ لأن له روايات كثيرة، موقوفة ومرفوعة ، وفي كتاب الأغاني لأبي الفرج منها جملة كبيرة ، فكيف لا يذكر ليحذر؟...

وإسحاق بن محمد هذا ، اسم جده: أبان وهو الذي يروي محمد بن خلف بن المرزبان عنه ، عن حسين بن دحمان الأشقر، قال : كنت بالمدينة فخلا لي الطريق نصف النهار، فجعلت أتغنى: " ما بال أهلك يا رباب " الأبيات ، وفيه قصة مالك معه وإخباره عن مالك أنه كان يجيد الغناء؛ في حكاية أظنها مختلقة ، رواها صاحب كتاب الأغاني عن المرزبان . 

ولا يُغْتَرُّ بها فإنها من رواية هذا الكذاب " انتهى من "لسان الميزان" (2/71).

ومما يدل على بطلان هذه القصة أيضًا مخالفتها لصفات الإمام مالك التي صحت عنه .

فقد جاء في ترجمته الصحيحة ، أنه كان أبيض حسن الوجه والصورة ، وصاحب هذه القصة المكذوبة يزعم أنه كان قبيح الوجه ؛ لأنه ذكر أن أمه قالت له : " إن المغني إذا كان قبيح الوجه لم يُلْتَفَتْ إلى غنائه ، فدع الغناء واطلب الفقه " .

وثمة دلائل أخرى على بطلان هذه القصة تجدها في هذا الرابط :

 http://www.ahlalhdeeth.com/vb/showthread.php?t=379720

وعليه : فلا يصح القول بأن الإمام مالك كان مغنيًا في صغره ثم ترك الغناء ودرس الفقه !

ثالثًا:

ذكر غير واحد من أهل التراجم والسير أن الإمام مالكا حملت به أمّه ثلاث سنين !

ففي "الطبقات الكبرى" لابن سعد (5/ 430) : " قَالَ محمد بن عمر: وسمعت نساء آل جحاف من ولد زيد بن الخطاب يقلن :

ما حملت منا امرأة أقل من ثلاثين شهرا . والحمل كذلك- أراد توطأ ثم ترفعها الحيضة ثلاث سنين . أو أقل أو أكثر ثم يستبين الحمل من غير وطيء حادث – قَالَ : وسمعت مالك بن أنس يقول : قد يكون الحمل سنتين أو أكثر وأعرف من حمل به أكثر من سنتين - يعني نفسه – " انتهى.

وفي "ترتيب المدارك وتقريب المسالك" للقاضي عياض (1/ 120) : " اختُلف في حمل أمه به ؛ فقال ابن نافع الصائغ والواقدي ومعن ومحمد بن الضحاك: حملت به أمه ثلاث سنين .

وقال نحوه بكار بن عبد الله الزبيري ، وقال : أنضجته والله الرحم... قال ابن المنذر : وهو المعروف " انتهى.

وقال الذهبي في "تاريخ الإسلام" (11/ 319) : " قال معن بن عيسى ، والواقدي ، ومحمد بن الضحاك : " حملت بمالك أمه ثلاث سنين " انتهى .

ومعن بن عيسى من أثبت أصحاب مالك.

قال أبو حاتم : " أثبت أصحاب مالك وأوثقهم معن بن عيسى ، وهو أحب إليّ من عبد الله بن نافع الصائغ ، ومن ابن وهب " انتهى من "تهذيب الكمال" (28/339).

وقد وقع مثل هذا لغير مالك – رحمه الله تعالى - :

فروى الدارقطني في سننه (4/500) ، والبيهقي في "السنن الكبرى" (7/728) عن الوليد بن مسلم قال : " قلت لمالك بن أنس : إني حدثت عن عائشة ، أنها قالت : لا تزيد المرأة في حملها على سنتين قدر ظل المغزل . فقال : " سبحان الله من يقول هذا ؟ هذه جارتنا امرأة محمد بن عجلان امرأة صدق ، وزوجها رجل صدق ، حملت ثلاثة أبطن في اثنتي عشرة سنة، تحمل كل بطن أربع سنين" انتهى.

وقد سبق في موقعنا في جواب السؤال رقم : (140103) أن من الفقهاء من ذهب إلى أن مدة الحمل قد تصل إلى سنتين ، وهو مذهب الحنفية .

ومنهم من قال: ثلاث سنين ، وهو قول الليث بن سعد .

وقيل غير ذلك أيضا .

والمسألة فيها خلاف كبير بين أهل الفقه وأهل الطب وغيرهم ، لا يسع المقام لذكر ذلك الخلاف ، وفي الرابط التالي نبذة عن هذا الخلاف : http://majles.alukah.net/t4784-2/

والحاصل :

أنه صح أن الإمام مالك كان أبيض ، أشقر ، حسن الوجه ، أزرق العينين.

واشتهر عند أهل السير: أن أمه حملت به ثلاث سنين .

ولا يصح أنه كان يريد أن يصبح مغنيًا في صغره ، والخبر الوارد في ذلك باطل مكذوب .

والله أعلم.