عنوان الفتوى : هل يخفف العذاب عن أحد من الكفار أو ينفعه عمله في الآخرة ؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

سبق أن قرأت في موقعكم عن الكافر هل يخفف عنه من عذاب الله في الآخرة بحسناته التي عملها في الدنيا فكانت الإجابة أن ذلك لم يرد ، والذي ورد أنه يطعم بحسناته في الدنيا ، ثم يصير إلى الآخرة ليس له حسنات ، لكن ورد في شأن أبي لهب أنه يخفف عنه من عذاب النار بعتقه لجاريته فرحا بمولد النبي صلى الله عليه وسلم ، وكذلك أخبر النبي في شأن أبي طالب أنه خفف عنه من العذاب إلى ضحضاح من النار فكيف نوجه هذه الأدلة في ضوء ما ذكرتم ؟

مدة قراءة الإجابة : 9 دقائق

الحمد لله.

الكافر لا ينفعه عمله في الآخرة، بل يجعلها الله هباء منثورا، كما قال: (وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا) الفرقان/23، وقال: (مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ) إبراهيم/18، وقال: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ) النور/39 .

وقال: (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) الزمر/65، وقال تعالى: (وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) البقرة/217 ، وقال تعالى: (وَمَن يَكْفُرْ بِالإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ) المائدة/5 . 

وقال: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ) آل عمران/91، والآيات في هذا المعنى كثيرة.

وأخرج مسلم (214) عَنْ عَائِشَةَ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، ابْنُ جُدْعَانَ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ يَصِلُ الرَّحِمَ، وَيُطْعِمُ الْمِسْكِينَ، فَهَلْ ذَاكَ نَافِعُهُ؟ قَالَ: ( لَا يَنْفَعُهُ، إِنَّهُ لَمْ يَقُلْ يَوْمًا: رَبِّ اغْفِرْ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ).

قال ابن كثير في تفسير الآية الأولى (6/ 103): "وقوله تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا : وهذا يوم القيامة، حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من خير وشر، فأخبر أنه لا يتحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال - التي ظنوا أنها منجاة لهم - شيء؛ وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي، إما الإخلاص فيها، وإما المتابعة لشرع الله.

فكل عمل لا يكون خالصا ، وعلى الشريعة المرضية، فهو باطل.

فأعمال الكفار لا تخلو من واحد من هذين، وقد تجمعهما معا، فتكون أبعد من القبول حينئذ؛ ولهذا قال تعالى: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا" انتهى.

وقال الشيخ الأمين الشنقيطي رحمه الله: " فإن بعضَ الكفارِ يَبَرُّ وَالِدَيْهِ، ويصلُ رَحِمَهُ، ويَقْرِي الضيفَ، ويعينُ المظلومَ، وينفسُ عن المكروبِ، كُلُّ ذلك يقصدُ به وجهَ اللَّهِ، فهذه قُرَبٌ صحيحةٌ موافقةٌ للشرعِ هو مخلصٌ فيها لله، لا ينفعُه اللَّهُ بها يومَ القيامةِ؛ لأن اللَّهَ يقولُ: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَّنثُورًا [الفرقان: آية 23] وقال جلَّ وعلا: أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود: آية 16] أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ ... [النور: آية 39] كَرَمَادٍ [إبراهيم: الآية 18] ونحو ذلك من الآياتِ.

وقد ثَبَتَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ عَمَلَ الكافرِ الصالحِ - كأن يَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وينفِّس عن المكروبِ، وَيَقْرِيَ الضيفَ، ويعينَ المظلومَ، ويصلَ الرحمَ - يَقْصِدُ بذلك وجهَ اللَّهِ، فمثلُ هذا من الأعمالِ الصالحةِ إذا فَعَلَهُ الكفارُ، أَثَابَهُمُ اللَّهُ به في دارِ الدنيا ، فَأَعْطَاهُمْ عرضَ الدنيا من المالِ ، وَأَطْعَمَهُمْ وسقاهم ورزقَهم العافيةَ، ولا يكونُ لهم عِنْدَ اللَّهِ جزاءٌ.

وقد ثَبَتَ هذا المعنَى من حديثِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم الذي رَوَاهُ عنه أنسٌ، ورواه مسلمٌ في صحيحِه من حديثِ أنسٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: أن اللَّهَ يُطْعِمُ الكافرَ بعملِه الصالحِ في الدنيا، وَيُثِيبُهُ في الدنيا، فإذا جاء الآخرةَ لم يكن له عملٌ يُجَازَى عليه، أما المسلمُ فَاللَّهُ يُثِيبُهُ بعملِه في الدنيا وَيَدَّخِرُ له في الآخرةِ .

والآياتُ الدالةُ على أن الكفارَ ينتفعونَ بأعمالِهم في الدنيا جاءت في القرآنِ، كقولِه: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ [الشورى آية: 20] " انتهى من "العذب المنير" (5/570).

وقد حكى غير واحد من أهل العلم الإجماع على عدم انتفاع الكافر بعمله في الآخرة .

قال النووي رحمه الله في شرح مسلم (17/ 150) : "أجمع العلماء على أن الكافر الذي مات على كفره : لا ثواب له في الآخرة ، ولا يجازى فيها بشيء من عمله في الدنيا متقربا إلى الله تعالى، وصرح في هذا الحديث بأن يطعم في الدنيا بما عمله من الحسنات، أي بما فعله متقربا به إلى الله تعالى ، مما لا يفتقر صحته إلى النية ، كصلة الرحم والصدقة والعتق والضيافة وتسهيل الخيرات ونحوها.

وأما المؤمن : فيدخر له حسناته وثواب أعماله إلى الآخرة ويجزى بها مع ذلك أيضا فى الدنيا، ولامانع من جزائه بها في الدنيا والآخرة، وقد ورد الشرع به فيجب اعتقاده ... وأما إذا فعل الكافر مثل هذه الحسنات ثم أسلم فإنه يثاب عليها في الآخرة على المذهب الصحيح" انتهى.

ثانيا:

ما جاء في شأن أبي لهب ، من سقياه ، أو تخفيف العذاب عنه يوم الإثنين بعتاقته لثويبة مرضعة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أجاب عنه أهل العلم بأجوبة ، سبق بيانها في جواب السؤال رقم : (139986).

وحاصل الجواب عن القصة: أن هذا خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم، أو أن القصة مرسلة ، فلا تعارض نصوص القرآن والسنة، أو أنه : لا استحالة في تخفيف العذاب عن الكافر، فإذا ورد النص بذلك قيل به، واقتُصر عليه، فيكون هذا كالخاص المعارض للنصوص العامة.

ثالثا:

جاء في شأن أبي طالب: ما روى البخاري (3883) ، ومسلم (209) عن العَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا أَغْنَيْتَ عَنْ عَمِّكَ، فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ؟ قَالَ: (هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، وَلَوْلاَ أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ).

وهذه فيه قبول الشفاعة للكافر، وهو خاص بالنبي صلى الله عليه وسلم وبأبي طالب.

وفيه انتفاع الكافر بعمله في الآخرة، ويقال فيه ما قدمنا، وهو أنه لا استحالة في ذلك، فيثبت ما جاء في النص ولا يقاس عليه.

قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " عذاب الكفار متفاوت ، والنفع الذي حصل لأبي طالب من خصائصه ، ببركة النبي صلى الله عليه وسلم" انتهى من "فتح الباري" (7/ 196).

وقال الشيخ ابن باز رحمه الله: " وهناك شفاعة ثالثة خاصة به لأبي طالب عمه ، وهو أن شفع له حتى صار في ضحضاح من النار، وهو قد مات على الكفر بالله، وصار في غمرات من النار، فيشفع له - صلى الله عليه وسلم - أن يكون في ضحضاح من النار، بسبب نصره إياه، لأنه نصره وحماه لما تعدى عليه قومه، فيشفع له - صلى الله عليه وسلم - أن يكون في ضحضاح من النار.

وهذه شفاعة خاصة بأبي طالب، مستثناة من قوله جل وعلا: فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ ، إلا في هذه الخصلة، مع أبي طالب خاصة، وأبو طالب مخلد في النار مع الكفرة، لكنه في ضحضاح من النار، يغلي منه دماغه، نسأل الله العافية، وهو أهون أهل النار عذابا.

قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: إن أهون الناس عذابا يوم القيامة، من له نعلان من نار، يغلي منهما دماغه، نسأل الله السلامة. وفي رواية: يوضع على قدميه جمرتان من نار، يغلي منهما دماغه، ويرى أنه أشد الناس عذابا، وهو أهونهم عذابا وأبو طالب من هذا الصنف، نسأل الله العافية" انتهى من "فتاوى نور على الدرب" (2/ 104).

وفي المسألة كلام لبعض العلم سوى ذلك ، يمكن مراجعته في فتح الباري وغيره .

والله أعلم.