عنوان الفتوى : ما المقصود بحديث (إن الله خلق للنار أهلا)، هل هم مجبرون على الكفر؟

مدة قراءة السؤال : دقيقة واحدة

فقد سمعت درسا لأحد الدعاة، ومضمون الدرس أن الله تعالى يجبر الناس على الكفر، حاشاه سبحانه وتعالى، وقرأت لكم إجابة مضمونها كذلك بأن الله لا يجبر أحدا على الكفر، ولكن من البارحة، وأنا أقرأ كتاب القضاء والقدر للدكتور عمر سليمان عبد الله الأشقر، حيث جاء فيه بعض الأحاديث التي من مضمونها أن الله عز وجل خلق للنار وللجنة أهلا، وجاء بحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة، وإن عمل أي عمل، وإن صاحب أهل النار يختم له بعمل أهل النار، وإن عمل أي عمل). أرجو إجابة واضحة؛ لأن حاشاه الله تعالى أن يخلق للنار أناسا عبثا، ويريد فقط تعذيبهم، وهو الرحمن الرحيم.

مدة قراءة الإجابة : 12 دقائق

الحمد لله.

أولا:

الله تعالى لا يجبر أحدا على طاعةٍ أو معصية، ولكنه يأمر بالطاعة، وينهى عن المعصية، ويرضى الإيمان، ولا يرضى الكفر، كما قال تعالى: (إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ) الزمر/7.

ومن يفعل الكفر يفعله باختياره، ولو كان مجبرا لكان معذورا، ولما استحق العذاب على كفره.

قال تعالى: (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا * إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) الكهف/29-30.

وقال سبحانه: (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) البلد/10.

قال الطبري في تفسيره (24/437): " يقول تعالى ذكره: وهديناه الطريقين، ونجد: طريق في ارتفاع.

واختلف أهل التأويل في معنى ذلك، فقال بعضهم: عُنِي بذلك: نَجْد الخير، ونَجْد الشرّ، كما قال: (إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا).

ذكر من قال ذلك:

حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا وكيع، عن سفيان، عن عاصم، عن زرّ، عن عبد الله [بن مسعود] (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) قال: الخير والشرّ" انتهى.

فالإنسان مخير في أفعاله، وهذا الاختيار والإرادة أساس التكليف.

والله سبحانه يعلم ما سيختاره العبد، وقد كتبه في كتاب عنده قبل أن يخلقه، ويعلم من سيدخل الجنة ومن سيدخل النار، دون أن يجبر أحدا على شيء مما يوجب الجنة والنار.

ثانيا:

روى مسلم (2662) من حديث عائشة رضي الله عنها أن رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: (أَوَ لَا تَدْرِينَ أَنَّ اللهَ خَلَقَ الْجَنَّةَ وَخَلَقَ النَّارَ، فَخَلَقَ لِهَذِهِ أَهْلًا وَلِهَذِهِ أَهْلًا).

ومعنى أنه خلق للنار أهلا، أي أن مصيرهم النار، وليس أنه خلقهم ليدخلوا النار، فاللام هنا لام الصيرورة والعاقبة، وليست للتعليل.

قال المناوي في "التنوير شرح الجامع الصغير" (3/308): "واعلم أنه تعالى ما خلق الخلق إلا لعبادته، كما قال: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ ، فاللام هنا في الحديث لام الصيرورة والعاقبة، لا لام العلة، مثلها في قوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ" انتهى.

وقال الطبري في تفسير قوله تعالى : (وَلَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ) : " لنفاذ علمه فيهم بأنهم يصيرون إليها بكفرهم بربِّهم" انتهى من "تفسير الطبري" (13/278).

والله سبحانه غني عن عباده وعن تعذيبهم، كما قال: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا) النساء/147.

قال الطبري رحمه الله في تفسيره (9/342): "يعني جل ثناؤه بقوله:"ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم"، ما يصنع الله، أيها المنافقون، بعذابكم، إن أنتم تُبتم إلى الله، ورجعتم إلى الحق الواجب لله عليكم، فشكرتموه على ما أنعم عليكم من نعمه في أنفسكم وأهاليكم وأولادِكم، بالإنابة إلى توحيده، والاعتصام به، وإخلاصكم أعمالَكم لوجهه، وترك رياء الناس بها، وآمنتم برسوله محمد صلى الله عليه وسلم فصدَّقتموه، وأقررتم بما جاءكم به من عنده فعملتم به؟

يقول: لا حاجة بالله أن يجعلكم في الدَّرك الأسفل من النار، إن أنتم أنبتم إلى طاعته، وراجعتم العمل بما أمركم به، وترك ما نهاكم عنه؛ لأنه لا يجتلب بعذابكم إلى نفسه نفعًا، ولا يدفع عنها ضُرًّا، وإنما عقوبته من عاقب من خلقه، جزاءٌ منه له على جرَاءته عليه، وعلى خلافه أمره ونهيه، وكفرانِه شكر نعمه عليه؛ فإن أنتم شكرتم له على نعمه، وأطعتموه في أمره ونهيه، فلا حاجة به إلى تعذيبكم، بل يشكر لكم ما يكون منكم من طاعةٍ له وشكر، بمجازاتكم على ذلك بما تقصر عنه أمانيكم، ولم تبلغه آمالكم" انتهى.

فلا يخلق الله الخلق لأجل أن يعذبهم بالنار، لكن هذا مصير من كفر منهم وتمرد، وهو عالم سبحانه بمن سيطيع ويدخل الجنة، وبمن سيعصي ويكفر ويدخل النار.

ثالثا:

الذي يعمل الصالحات ثم يختم له بعمل أهل النار، هو من كان يعمل الصالحات رياء ونفاقا، كما جاء ذلك مبينا في الحديث.

روى البخاري (4207)، ومسلم (112) عَنْ سَهْلٍ قَالَ: " الْتَقَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي بَعْضِ مَغَازِيهِ فَاقْتَتَلُوا، فَمَالَ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى عَسْكَرِهِمْ وَفِي الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ لَا يَدَعُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ شَاذَّةً وَلَا فَاذَّةً إِلَّا اتَّبَعَهَا فَضَرَبَهَا بِسَيْفِهِ .

 فَقِيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا أَجْزَأَ أَحَدٌ مَا أَجْزَأَ فُلَانٌ.

 فَقَالَ: إِنَّهُ مِنْ أَهْلِ النَّارِ.

 فَقَالُوا: أَيُّنَا مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ إِنْ كَانَ هَذَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ.

فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ الْقَوْمِ: لَأَتَّبِعَنَّهُ، فَإِذَا أَسْرَعَ وَأَبْطَأَ كُنْتُ مَعَهُ حَتَّى جُرِحَ فَاسْتَعْجَلَ الْمَوْتَ فَوَضَعَ نِصَابَ سَيْفِهِ بِالْأَرْضِ وَذُبَابَهُ بَيْنَ ثَدْيَيْهِ ثُمَّ تَحَامَلَ عَلَيْهِ فَقَتَلَ نَفْسَهُ.

 فَجَاءَ الرَّجُلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، فَقَالَ وَمَا ذَاكَ؟ فَأَخْبَرَهُ فَقَالَ: (إِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَإِنَّهُ لَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فِيمَا يَبْدُو لِلنَّاسِ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ).

وأما من يعمل بعمل أهل الجنة حقيقة، إخلاصا وإيمانا، فالله تعالى أعدل وأكرم وأرحم من أن يخذله في نهاية عمره.

بل هذا أهل للتوفيق والتسديد والتثبيت ، كما قال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) إبراهيم/27.

 وقال: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ) العنكبوت/69.

 وقال: (إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) يوسف/90.

 وقال: (يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ) آل عمران/171.

قال ابن القيم رحمه الله في "الفوائد" ص 163: " وأما كون الرجل (يعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب) ، فإن هذا عمل أهل الجنة فيما يظهر للناس ، ولو كان عملا صالحا مقبولا للجنة ، قد أحبه الله ورضيه : لم يبطله عليه .

وقوله : ( لم يبق بينه وبينها إلا ذراع ) يشكل على هذا التأويل، فيقال: لما كان العمل بآخره وخاتمته لم يصبر هذا العامل على عمله حتى يتم له، بل كان فيه آفة كامنة ونكتة خُذل بها في آخر عمره، فخانته تلك الآفة والداهية والباطنة في وقت الحاجة، فرجع إلى موجبها وعملت عملها .

ولو لم يكن هناك غش وآفة لم يقلب الله إيمانه كفرا مع صدقه فيه وإخلاصه بغير سبب منه يقتضي إفساده عليه، والله يعلم من سائر العباد ما لا يعلمه بعضهم من بعض" انتهى.

وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله: " إن حديث ابن مسعود : (حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع) أي: بين الجنة، ليس المراد أن عمله أوصله إلى هذا المكان حتى لم يبق إلا ذراع، لأنه لو كان عمله عمل أهل الجنة حقيقة من أول الأمر، ما خذله الله عز وجل؛ لأن الله أكرم من عبده، عبد مقبل على الله، ما بقي عليه والجنة، إلا ذراع يصده الله؟!

هذا مستحيل، لكن المعنى: يعمل بعمل أهل الجنة ، فيما يبدو للناس، حتى إذا لم يبق على أجله إلا القليل: زاغ قلبه، والعياذ بالله -نسأل الله العافية-. هذا معنى حديث ابن مسعود.

إذاً: لم يبق بينه وبين الجنة إلا ذراع بالنسبة لأجله، وإلا فهو من الأصل ما عِمِل عَمَلَ أهلِ الجنة -نعوذ بالله من ذلك، نسأل الله ألا يزيغ قلوبنا- عامل وفي قلبه سريرة خبيثة أودت به إلى أنه لم يبق إلا ذراع ويموت" انتهى من "اللقاء الشهري" (13/14).

وقال أيضا : " وأما حديث ابن مسعود رضي الله عنه: (إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها)؛ فهذا يوجب الحذر من أن يعمل الإنسان بعمل أهل الجنة، فيما يبدو للناس، دون ما في باطن قلبه.

ويدل لهذا ما ثبت في الصحيح أيضاً: من أن رجلاً كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة، وكان لا يدع للعدو شاذة ولا فاذة إلا قضى عليها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم (هذا من أهل النار) ، فعظم ذلك على الصحابة ، وشق عليهم كيف يكون هذا من أهل النار وهو على هذه الحال! ثم قال أحد الصحابة : والله لألزمنه -ألزم هذا الرجل وأمشي معه- حتى أنظر ماذا يكون من أمره ، يقول: فأصابه سهم -أصاب هذا الرجل الشجاع الجيد سهم- فغضب وجزع ثم أخذ بسيفه ووضعه على بطنه واتكأ عليه حتى خرج السيف من ظهره ، فمات ، فجاء الرجل الذي كان ملازماً له إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقال: أشهد أنك رسول الله ، قال: (وبم ؟) قال: إن الرجل الذي قلت لنا إنه من أهل النار صارت خاتمته كذا وكذا -نعوذ بالله من سوء الخاتمة- فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار).

وعلى هذا؛ فيكون حديث عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فيه التحذير من سوء الطوية وفساد النية ، وأن الإنسان يجب عليه إذا عمل بعمل أهل الجنة أن يكون عمله مبنياً على إخلاص وتوحيد، حتى يكون نافعاً له عند وفاته ومفارقته الدنيا " انتهى من "اللقاء المفتوح" (12/23).

وينظر للفائدة: هذا البحث النافع بعنوان: "الإيمان بالقضاء والقدر وأثره في سلوك الإنسان" للدكتور عبد الكريم زيدان، رحمه الله.

والحاصل:

أن على المؤمن أن يعتقد أن الله تعالى له الغنى التام والعدل التام، وأنه منزه عن الظلم، وأنه لا يجبر أحدا على كفر أو معصية، وهو الخلاق العليم، يعلم من يدخل الجنة ومن سيدخل النار، فللنار أهل سيصيرون إليها، وللجنة أهل سينعمون فيها.

جعلنا الله من أهل الجنة، ووقانا عذاب النار.

والله أعلم

أسئلة متعلقة أخري
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي...