عنوان الفتوى : مصدر مياه الأرض
ما هو أصل الماء الذي في الأرض؟ وهل يصح القول بأن الماء الذي في الأرض من السماء؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فما زال المتخصصون في علوم الأرض، والفلك، والهيئة مختلفين في أصل الماء على كوكب الأرض، وهل هو منها، أو من خارجها ؟
وأما دلالة القرآن على هذه المسألة فليست قطعية:
ـ فبعض الآيات يمكن أن يفهم منها ما يؤيد نظرية المنشأ الأرضي للماء، كقوله تعالى: { أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا. رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا. وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا. وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا. أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} [النازعات: 27 - 31]. حيث ذكر خلق السماء وما يتعلق به، ثم ذكر دحو الأرض، ثم قال: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا}.
وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [الروم: 48]. وفي هذه الآية ربط واضح بين إرسال الرياح، وجريان السحاب، وتكوين المطر الذي هو مصدر مياه الأرض. ونحوه قوله تعالى: {وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ} [الأعراف: 57] وقوله: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ} [النور: 43].
وللكاتب الطبيب/ محمد توفيق صدقي مقال طويل منشور في مجلة المنار بعنوان: (علم الفلك والقرآن: نظرة في السماوات والأرض) في آخره فصل: (في بيان دقائق المسائل العلمية الفلكية) قال فيه: يلاحظ القارئ مما تقدم، أن القرآن الشريف، قد أتى في هذا الباب بمسائل علمية دقيقة، لم تكن معروفة في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، وهذه المسائل تعتبر من معجزات القرآن الخالدة. وهاكها ملخصة ـ فذكر منها عشرة، كان آخرها: كان الناس في سالف الأزمان لا يدرون من أين يأتي ماء المطر، ولهم في السحاب أوهام عجيبة، كما كانت لهم في كل شيء سخافات وخرافات، ولكن القرآن الشريف تنزه عن الجهل والخطأ فقال: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَاباً ـ إلى قوله: ـ فَتَرَى الوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ} (النور: 43) وقال: {أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ} (الزمر: 21) ومقتضى القولين أن الماء العذب الذي نشربه، ونسقي به الأرض سواء كان من الينابيع، أو من الأنهار هو من الأمطار الناشئة من السحاب، ومن أين يأتي السحاب؟ هو بخار من بحار هذه الأرض، أي: أن السحاب هو من الأرض، وهو عين قوله تعالى: {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا} (النازعات: 31) أي أن الماء جميعه أصله من الأرض، وإن شوهد أنه ينزل من السحاب. اهـ.
ونقل ذلك بحروفه القاسمي في (محاسن التأويل) ونسبه لبعض علماء الفلك.
ـ ومن الآيات ما يمكن أن يفهم منه أن أصل الماء في الأرض نازل من السماء، وهو يؤيد نظرية المنشأ الكوني، أو الخارجي للمياه. كقوله تعالى: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ. وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ} [المؤمنون: 17، 18] حيث ذكر خلق السموات السبع، وعقَّبه بذكر إنزال الماء من السماء وإسكانه في الأرض، ونحوه قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ} [الزمر: 21].
قال ابن كثير: يخبر تعالى: أن أصل الماء في الأرض من السماء، كما قال تعالى: {وأنزلنا من السماء ماء طهورا} [الفرقان:48] ، فإذا أنزل الماء من السماء كمَنَ في الأرض، ثم يصرفه تعالى في أجزاء الأرض كما يشاء، وينبعه عيونا ما بين صغار وكبار، بحسب الحاجة إليها؛ ولهذا قال: {فسلكه ينابيع في الأرض} ـ ثم أورد بإسناد ابن أبي حاتم عن ابن عباس في هذه الآية ـ قال: "ليس في الأرض ماء إلا نزل من السماء، ولكن عروق في الأرض تغيره، فذلك قوله تعالى: {فسلكه ينابيع في الأرض} فمن سره أن يعود الملح عذبا، فليصعده". وكذا قال سعيد بن جبير، وعامر الشعبي: أن كل ماء في الأرض، فأصله من السماء. اهـ.
وقال صاحب (ظلال القرآن) عند قوله تعالى: أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا {عبس:25}: صبُّ الماء في صورة المطر، حقيقة يعرفها كل إنسان في كل بيئة، في أية درجة كان من درجات المعرفة والتجربة. فهي حقيقة يخاطب بها كل إنسان. فأما حين تقدم الإنسان في المعرفة، فقد عرف من مدلول هذا النص ما هو أبعد مدى، وأقدم عهدا من هذا المطر الذي يتكرر اليوم، ويراه كل أحد. وأقرب الفروض الآن لتفسير وجود المحيطات الكبيرة، التي يتبخر ماؤها، ثم ينزل في صورة مطر، أقرب الفروض: أن هذه المحيطات تكونت أولا في السماء فوقنا، ثم صبت على الأرض صبا! ـ ثم نقل تفصيل ذلك عن أحد علماء العصر من كتاب (الإنسان لا يقوم وحده) تأليف/ كريسبي موريسون. وترجمه/ محمود الفلكي بعنوان: (العلم يدعو إلى الإيمان) ثم قال : ـ وهذا الفرض- ولو أننا لا نعلق به النص القرآني - يوسع من حدود تصورنا نحن للنص، والتاريخ الذي يشير إليه، تاريخ صب الماء صبا. وقد يصح هذا الفرض، وقد تجدّ فروض أخرى عن أصل الماء في الأرض. ويبقى النص القرآني صالحا لأن يخاطب به كل الناس في كل بيئة، وفي كل جيل. اهـ.
وقد جمع بعض المعاصرين بين الاتجاهين، فذهب إلى أن المياه على كوكب الأرض منه ما أصله خارجي (سماوي) ومنه ما أصله أرضي. والمسألة لا تزال محل بحث ونظر، والله أعلم بحقيقة ذلك.
وراجع للفائدة مقال: (مصدر مياه الأرض بين الإنْزَالْ، والتَنْزِيلْ) على موقع موسوعة الإعجاز العلمي في القرآن والسنة، ورابطه: http://quran-m.com/container2.php?fun=artview&id=1024
والله أعلم.