عنوان الفتوى : حكم اعتبار عيسى بأنه ابن الله بالمعنى المجازي
هل يجوز أن يقال إن المسيح عيسى هو ابن الله قاصدًا فيها البنوة بالمعنى المجازي (وهو كون الناس محتاجين مفتقرين إلى الله تعالى) وليس بالمعنى الكفري الذي يؤمن به المسيحيون؟
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فإن الأصل هو منع قول هذه العبارة؛ لأنها تعتبر من الكلام المحرم الذي نسب الله قائله إلى الكفر، كما قال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ {التوبة:30}، وقال تعالى: وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا * أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا * وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا * إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا {مريم:88 - 94}، وقال: وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا * مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا {الكهف:4، 5}.
وفي الصحيحين عن أبي هريرة -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: يقول الله تعالى: شتمني ابن آدم وما ينبغي له ذلك، وكذبني ابن آدم وما ينبغي له ذلك؛ فأما شتمه إياي فقوله: إني اتخذت ولدًا! وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفوًا أحد. وأما تكذيبه إياي فقوله: لن يعيدني كما بدأني! وليس أول الخلق بأهون عليّ من إعادته.
ولا حاجة للتعبير بما ذكر من باب التجوز لاستغنائنا بالعبارات الشرعية وهي ربوبية الله لخلقه ورحمته بهم ولطفه بهم، وقد سئل الشيخ/ محمد صالح المنجد -حفظه الله-: ما حكم من قال من المسلمين: "نحن نؤمن أن كلنا أبناء الله (مستشهدًا بالحديث الضعيف "الخلق كلهم عيال الله")؟
فقال في الجواب مفصلًا:
الحمد لله، فالحديث المذكور رواه البزار وأبو يعلى من حديث أنس، ولفظه: "الخلق كلهم عيال الله؛ فأحبهم إلى الله أنفعهم لعياله". وهو حديث ضعيف جدًّا كما قال الألباني في ضعيف الجامع ( حديث رقم 2946). ومن قال من المسلمين: نحن نؤمن بأننا جميعا أبناء الله، وجب أن يُستفصل عن مراده قبل أن يُحكم عليه:
1- فإن أراد بالبنوة المعنى المجازي، وهو كون الناس محتاجين مفتقرين إلى الله تعالى، واستعمل هذه العبارة في غرض مشروع كالرد على النصارى القائلين بأن المسيح ابن الله، فلا حرج عليه في إلزامه النصارى بهذا لإبطال عقيدتهم -مع عدم التسليم باستعماله مع غيرهم لما يورثه من لبس ومعانٍ باطلة- وذلك لأن من وسائل إبطال اعتقاد النصارى في عيسى عليه السلام إيقافهم على عبارات وردت في كتابهم المقدس تثبت البنوة لغير عيسى بما يدل بصورة واضحة على أن معنى البنوة في كل نصوص الإنجيل ليس المراد به البنوة الحقيقة التي زعموها لعيسى بما أدخله القسيس بولس لحرفهم عن عقيدة التوحيد، معتمدًا على اللبس الذي توحيه كلمة ( الأب ) و ( الابن ) ومن هذه النصوص التي ترد عليهم ما جاء في إنجيل لوقا (20/36) قال عيسى عن المؤمنين به ( هم مثل الملائكة، لا يموتون، وهم أبناء الله لأنهم أبناء القيامة). وكما في سفر أشعيا (43/6) ( ائت ببني من بعيد وبناتي من أقصى الأرض ) . وكما في إنجيل يوحنا (1/12) ( وأما كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطانا أن يصيروا أولاد الله أي المؤمنين باسمه، الذين ولدوا ليس من دم ولا مشيئة جسد ولا من مشيئة رجل بل من الله ). وهكذا ما جاء في وصف الله بالأب، كما في إنجيل متى (6/1) من كلام المسيح لتلاميذه ( وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السموات ). وفي إنجيل لوقا (11/2) ( متى صليتم فقولوا: أبانا الذي في السموات ). وفي إنجيل يوحنا (20/17) ( إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم ). فالنصارى لا يقولون بأن الملائكة وبني إسرائيل والحواريين أبناء الله حقيقة، كما لا يقولون بأن الله أب لهؤلاء حقيقة، وإنما يحملون ذلك على المعنى المجازي، أي أب لهم في النعمة والإحسان والحفظ والرعاية، وهم أبناؤه في العبادة والحاجة والافتقار. وبهذا يبطل استدلالهم على بنوة عيسى لله بكونه وصف في الإنجيل بأنه ابن الله .
2- وإن أراد أن الناس جميعًا أبناء الله كبنوة المسيح لله، على نحو ما يعتقده النصارى، فهذا كفر فوق كفر النصارى .
3- وإن أراد أن الجميع أبناء الله أو عياله فلا فرق بين المسلم والكافر، وأراد بذلك عدم تكفير اليهود والنصارى وعباد الأوثان، فهذه ردة منه عن الإسلام؛ فإن من شك في كفر اليهود والنصارى أو صحح مذهبهم كفر إجماعًا. وينبغي الحذر من إطلاق الألفاظ الموهمة، التي قد توقع الإنسان في المحظور، وتدعو إلى إساءة الظن به، لا سيما ما يتعلق منها بتوحيد الله تعالى، وإفراده في أسمائه وصفاته إذ حق الله تعالى هو أولى ما يراعى ويجنب ما يخدشه، لا سيما وأن هذه اللفظة قد استعملها اليهود وساقها الله تعالى في القرآن عنهم في سياق الذم ( وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاء اللّه وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِم يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُم بَشَرٌ مِّمَّنْ خَلَقَ ) المائدة / 18. اهـ.
والله أعلم.