عنوان الفتوى : هل يمكن للقيط أن يكون عالماً ربانياً ؟.
أنا ابنكم الذي نشأ يتيما بلا قرابة ، لقيط ، وعازم على أن أكون عالما ربّانيا ، ومحدثا ، وإماما للناس ، فما الحكم في ذلك كوني مجهولا ؟
الحمد لله
نعم ؛ أيها الابن الكريم ، والأخ الحبيب !!
ومن ذا الذي يمنعك من المعالي ، يا عبد الله ، إلا أن يكون كيد الشيطان اللعين ، ومكره بك ، وصده لك عن سبل الخير ، والمعالي ، ومكارم الأخلاق ، وصالح الأعمال .
قال الله تعالى : ( وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا * وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا * وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاهَا * وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا * وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا * وَالأرْضِ وَمَا طَحَاهَا * وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا * قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا ) سورة الشمس /1-10 .
قال الشيخ السعدي رحمه الله :
" أقسم تعالى بهذه الآيات العظيمة، على النفس المفلحة، وغيرها من النفوس الفاجرة ..
وقوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا أي: طهر نفسه من الذنوب، ونقاها من العيوب، ورقاها بطاعة الله، وعلاها بالعلم النافع والعمل الصالح.
وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا أي: أخفى نفسه الكريمة، التي ليست حقيقة بقمعها وإخفائها، بالتدنس بالرذائل، والدنو من العيوب، والاقتراف للذنوب، وترك ما يكملها وينميها، واستعمال ما يشينها ويدسيها. " انتهى من "تفسير السعدي" (926) .
وحينئذ ؛ فإنما ينفعك ، ويرفعك : إيمانك ، وتقواك ، وعملك الصالح ...
وليس يرفع من خسيسة عبد : نسبه الشريف العالي ، ولا يضعه منه عند الله ، وعند كرام الناس : ألا يكون له نسب شريف ، أو ألا يعرف له نسب أصلا ؛ فما ضره ذلك ؛ إذا كان الله يعلم منه التقوى والعمل الصالح ؟!
أما رأيت : أبا لهب ، وقد كان عما لنبي صلى الله عليه وسلم ؛ فما نفعه ذاك النسب الشريف ، والأصل الباذخ العالي ؛ إذ خيب نفسه ؟!
روى البخاري (5990) ، ومسلم (215) عن عَمْرَو بْنَ العَاصِ، قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جِهَارًا غَيْرَ سِرٍّ يَقُولُ: " إِنَّ آلَ أَبِي - قَالَ عَمْرٌو: فِي كِتَابِ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ بَيَاضٌ - لَيْسُوا بِأَوْلِيَائِي، إِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ المُؤْمِنِينَ "
وسلمان ، كان رجلا من فارس ؛ ثم له من القدم والسبق في الإسلام ، والمكانة عند العالمين ؛ فما لو أن الإيمان في السماء ، لتناوله بيده ، ونال الشرف بإيمانه وتقواه .
روى مسلم (2546) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: " كُنَّا جُلُوسًا عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ نَزَلَتْ عَلَيْهِ سُورَةُ الْجُمُعَةِ، فَلَمَّا قَرَأَ: (وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ) [الجمعة: 3] قَالَ رَجُلٌ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟ يَا رَسُولَ اللهِ فَلَمْ يُرَاجِعْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى سَأَلَهُ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، قَالَ: وَفِينَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ قَالَ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَدَهُ عَلَى سَلْمَانَ، ثُمَّ قَالَ: (لَوْ كَانَ الْإِيمَانُ عِنْدَ الثُّرَيَّا، لَنَالَهُ رِجَالٌ مِنْ هَؤُلَاءِ) " .
قال ابن القيم في كتابه النفيس " الفوائد " (ص 36-41)
" نَجَائِب النجَاة مهيأة للمراد ، وأقدام المطرود موثوقة بالقيود . هبّت عواصف الأقدار فِي بيداء الأكوان فتقلب الْوُجُود وَنجم الْخَيْر ، فَلَمَّا ركدت الرّيح إِذا أَبُو طَالب غريق فِي لجة الْهَلَاك ، وسلمان ( أي الفارسي ) على سَاحل السَّلامَة ، والوليد بن الْمُغيرَة يقدم قومه فِي التيه ، وصهيب قد قدم بقافلة الرّوم ، وَالنَّجَاشِي فِي أَرض الْحَبَشَة يَقُول : لبيْك اللَّهُمَّ لبيْك ، وبلال يُنَادي : الصَّلَاة خير من النّوم ، وَأَبُو جهل فِي رقدة الْمُخَالفَة .
أَبُو طَالب إِذا سُئِلَ عَن اسْمه قَالَ : عبد منَاف ، وَإِذا انتسب افتخر بِالْآبَاءِ ، واذا ذُكرت الْأَمْوَال عبد الْإِبِل .
وسلمان إِذا سُئِلَ عَن اسْمه قَالَ : عبد الله ، وَعَن نسبه قَالَ : ابْن الْإِسْلَام ، وَعَن مَاله قَالَ : الْفقر ، وَعَن حانوته قَالَ : الْمَسْجِد ، وَعَن كَسبه قَالَ : الصَّبْر ، وَعَن لِبَاسه قَالَ : التَّقْوَى والتواضع ، وَعَن وساده قَالَ : السهر ، وَعَن فخره قَالَ : (سلمَان منا) ، وَعَن قَصده قَالَ : (يُرِيدُونَ وَجهه) : وَعَن سيره قَالَ : إِلَى الْجنَّة ، وَعَن دَلِيله فِي الطَّرِيق قَالَ : إِمَام الْخلق وهادي الْأَئِمَّة .
إِذا نَحن أدلجنا وَأَنت إمامنا ... كفى بالمطايا طيب ذكراك حَادِيًا
وَإِن نَحن أضللنا الطَّرِيق وَلم نجد ... دَلِيلاً كفانا نور وَجهك هاديا " انتهى .
ولأجل تقرير ذلك الأصل الإيماني العظيم : جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنسابه الأقربين والأدنين ، وعرفهم : أن مدرا نجاتهم ، وفلاحهم : إنما هو على العمل والتقوى ، لا على النسب الشريف ، والوصلة الكريمة برسول الله صلى الله عليه وسلم :
روى البخاري (2753) ، ومسلم (206) ، عن أبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: " قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) [الشعراء: 214]، قَالَ: (يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ - أَوْ كَلِمَةً نَحْوَهَا - اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ، لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللَّهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، وَيَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا ) " .
فالفضل الحقيقي عند الله هو المبني على التقوى والعمل الصالح ، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) الحجرات/13 .
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم ( إِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى صُوَرِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ ) رواه مسلم (2564) .
وعن أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ ، قَالَ : " انْتَسَبَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ بْنِ فُلَانٍ ، فَمَنْ أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ ؟
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
( انْتَسَبَ رَجُلَانِ عَلَى عَهْدِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا : أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ ، حَتَّى عَدَّ تِسْعَةً ، فَمَنْ أَنْتَ لَا أُمَّ لَكَ ؟ قَالَ : أَنَا فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ ابْنُ الْإِسْلَامِ .
قَالَ : فَأَوْحَى اللَّهُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ : أَنَّ هَذَيْنِ الْمُنْتَسِبَيْنِ ، أَمَّا أَنْتَ أَيُّهَا الْمُنْتَمِي أَوِ الْمُنْتَسِبُ إِلَى تِسْعَةٍ فِي النَّارِ فَأَنْتَ عَاشِرُهُمْ ، وَأَمَّا أَنْتَ يَا هَذَا الْمُنْتَسِبُ إِلَى اثْنَيْنِ فِي الْجَنَّةِ ، فَأَنْتَ ثَالِثُهُمَا فِي الْجَنَّةِ ) رواه أحمد (21178 ) وصححه العراقي والألباني .
فليكن ذلك على ذكر منك ، وملء السمع والبصر ، ولتكن ، كما قال الفطن الحكيم :
أبي الإسلام ؛ لا أبَ لي سواه * إذا افتخروا بقيس ، أو تميم !!
فاستعن بالله ، ولا تعجز ...
ولا يصدنك الشيطان عن سبيل المعالي ، بأوهى الحيل ...
ولا يجعلنك مع الكسالى القاعدين ، الذين جهلوا قمية أنفسهم ، وما هيأهم الله له .. وقعدوا عن طلب المعالي :
قد رشَّحوك لأمرٍ إنْ فطِنتَ لهُ * فاربأْ بنفسكَ أن ترعى مع الهَمَلِ
ومهما قصَّرت في شيء من الأسباب ، فلا تقصرن في اثنين :
- الاستعانة بالله والانطراح بين يديه ، وتقواه في السر والعلن .
- ثم لزوم الصحبة الصالحة التي تعينك على مبتغاك من العلماء وطلبة العلم وأصحاب الهمم العالية المشتغلين بالأعمال دون الأقوال .
واحذر من مصاحبة وأهل الفراغ والدناءة ، فإنهم الجرب الحاضر ( وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا ) سورة الكهف / 28 ، ( وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ) سورة الأنعام / 68 .
وينظر للفائدة جواب السؤال رقم : (34306) ، و (135085) ، و (139818) ، و (22090) .
والله أعلم .