عنوان الفتوى : هل يصح القول بأن حسنات الأبرار سيئات المقربين؟
ما معنى عبارة حسنات الأبرار سيئات المقربين ؟ وما مدى صحتها ؟
الحمد لله
هذه العبارة: " حَسَنَاتُ الْأَبْرَارِ سَيِّئَاتُ الْمُقَرَّبِينَ " ليست بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا تحفظ عن أحد من سلف هذه الأمة ، وإنما تروى عن الجنيد بن محمد وأبي سعيد الخراز ، ونحوهما من مشايخ الصوفية .
وإطلاق القول بها يوهم معنى فاسدا .
قال الشيخ بكر أبو زيد رحمه الله:
" حسنات الأبرار سيئات المقربين " : هذا لا أصل له في الموضوع عن النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم هو باطل معنى؛ فكيف تكون الحسنة، سيئة؟! فهو باطل لفظاً، ومعنى، والله أعلم " انتهى من "معجم المناهي اللفظية" (ص: 228) .
فهي عبارةٌ لا ينبغي إطلاقها ؛ إذ الأصل أن الحسنة لا يمكن أن تصير سيئة أبدا، فالحسنة عبادة أو جزاء عبادة، والسيئة معصية أو جزاء معصية .
وبعض أهل العلم وجه العبارة إلى معنى صحيح محتمل .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :
" حَسَنَات الْأَبْرَار سيئات المقربين " هَذَا اللَّفْظ لَيْسَ مَحْفُوظًا عَمَّن قَوْله حجَّة، لَا عَن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وَلَا عَن أحد من سلف الْأمة وأئمتها .
وَإِنَّمَا هُوَ كَلَام ، وَله معنى صَحِيح ، وَقد يحمل على معنى فَاسد.
أما مَعْنَاهُ الصَّحِيح : فَوَجْهَانِ :
أَحدهمَا: أَن الْأَبْرَار يقتصرون على أَدَاء الْوَاجِبَات وَترك الْمُحرمَات ، وَهَذَا الاقتصار سَيِّئَة فِي طَرِيق المقربين .
وَمعنى كَونه سَيِّئَة : أَن يخرج صَاحبه عَن مقَام المقربين ، فَيحرم درجاتهم، وَذَلِكَ مِمَّا يسوء من يُرِيد أَن يكون من المقربين .
فَكل من أحب شَيْئا وَطَلَبه ، إِذا فَاتَهُ محبوبه ومطلوبه : سَاءَهُ ذَلِك .
فالمقربون يتوبون من الاقتصار على الْوَاجِبَات، لَا يتوبون من نفس الْحَسَنَات الَّتِي يعْمل مثلهَا الْأَبْرَار، بل يتوبون من الاقتصار عَلَيْهَا .
وَفرق بَين التَّوْبَة من فعل الْحسن، وَبَين التَّوْبَة من ترك الْأَحْسَن، والاقتصار على الْحسن.
الثَّانِي: أَن العَبْد قد يُؤمر بِفعل يكون حسنا مِنْهُ، إِمَّا وَاجِبا وَإِمَّا مُسْتَحبا؛ لِأَن ذَلِك مبلغ علمه وَقدرته .
وَمن يكون أعلم مِنْهُ ، وأقدر : لَا يُؤمر بذلك، بل يُؤمر بِمَا هُوَ أَعلَى مِنْهُ، فَلَو فعل هَذَا مَا فعله الأول، كَانَ ذَلِك سَيِّئَة.
مِثَال ذَلِك: أَن الْعَاميّ يُؤمر بِمَسْأَلَة الْعلمَاء المأمونين على الْإِسْلَام ، وَالرُّجُوع إِلَيْهِم بِحَسب قُوَّة إِدْرَاكه، وَإِن كَانَ فِي ذَلِك تَقْلِيد لَهُم، إِذ لَا يُؤمر العَبْد إِلَّا بِمَا يقدر عَلَيْهِ، وَأما الْعلمَاء القادرون على معرفَة الْكتاب وَالسّنة والاستدلال بهما، فَلَو تركُوا ذَلِك وَأتوا بِمَا يُؤمر بِهِ الْعَاميّ ، لكانوا مسيئين بذلك.
والعلم وَالْجهَاد كالأمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر وَمَا يدْخل فِي ذَلِك : هُوَ وَاجِب على الْكِفَايَة من الْمُؤمنِينَ، فَمن قَامَ بِهِ كَانَ أفضل مِمَّن لم يقم بِهِ، وَإِذا ترك ذَلِك من تعين عَلَيْهِ كَانَ مذنبا مسيئا، فَيكون ذَلِك سَيِّئَة لَهُ إِذا تَركه، وحسنة مفضلة لَهُ على غَيره إِذا فعله، وَإِن كَانَ الْقيام بالواجبات ، بِدُونِ ذَلِك : من حَسَنَات من لم يكن قَادِرًا على ذَلِك، فحسنات هَؤُلَاءِ الْأَبْرَار ، وَهِي الاقتصار على ذَلِك : سيئات أُولَئِكَ المقربين.
وَكَذَلِكَ السَّابِقُونَ الْأَولونَ من هَذِه الْأمة ، فِيمَا فَعَلُوهُ من الْجِهَاد وَالْهجْرَة، لَو تركُوا ذَلِك واقتصروا على مَا دونه : كَانَ ذَلِك من أعظم سيئاتهم، قَالَ النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم: لَا هِجْرَة بعد الْفَتْح وَلَكِن جِهَاد وَنِيَّة، وَإِذا استنفرتم فانفروا ؛ فكَانَ الاقتصار على مُجَرّد ذَلِك من حَسَنَات الْأَبْرَار الَّذين لَيْسُوا من أُولَئِكَ السَّابِقين.
وَكَذَلِكَ المُرْسَلُونَ: لَهُم مأمورات ، لَو تركوها كَانَ ذَلِك سيئات، وَإِن كَانَ فعل مَا دونهَا حَسَنَات لغَيرهم، مِمَّن لم يُؤمر بذلك .
إِلَى نَظَائِر ذَلِك مِمَّا يُؤمر فِيهِ العَبْد بِفعل لم يؤمر بِهِ من هُوَ دونه، فَيكون ترك ذَلِك سَيِّئَة فِي حقه، وَهُوَ من المقربين إِذا فعله، وَيكون فعل مَا دون ذَلِك حَسَنَات لمن دونه .
وَأما الْمَعْنى الْفَاسِد:
فَأن يظنّ الظان : أَن الْحَسَنَات الَّتِي أَمر الله بهَا أمرا عَاما، يدْخل فِيهِ الْأَبْرَار، وَتكون سيئات للمقربين .
مثل من يظنّ أَن الصَّلَوَات الْخمس ، ومحبة الله وَرَسُوله ، والتوكل على الله ، وإخلاص الدَّين لله وَنَحْو ذَلِك : هِيَ سيئات فِي حق المقربين .
فَهَذَا قَول فَاسد ، غلا فِيهِ قوم من الزَّنَادِقَة الْمُنَافِقين المنتسبين إِلَى الْعلمَاء والعباد، فزعموا أَنهم يصلونَ إِلَى مقَام المقربين ، الَّذِي لَا يؤمرون فِيهِ بِمَا يُؤمر بِهِ عُمُوم الْمُؤمنِينَ من الْوَاجِبَات، وَلَا يحرم عَلَيْهِم مَا يحرم على عُمُوم الْمُؤمنِينَ من الْمُحرمَات، كَالزِّنَا وَالْخمر وَالْميسر.
وَكَذَلِكَ: زعم قوم فِي أَحْوَال الْقُلُوب الَّتِي يُؤمر بهَا جَمِيع الْمُؤمنِينَ : أَن المقربين لَا تكون هَذِه حَسَنَات فِي حَقهم.
وكلا هذَيْن من أَخبث الْأَقْوَال، وأفسدها " انتهى من "جامع الرسائل" (1/ 251 -255) باختصار.
والحاصل :
أن الحسنة حسنة ، والسيئة سيئة ، ولكن قد يقع من بعض الكبار ما يعده سيئة باعتبار مقامه ، ولو وقع من بعض الصغار لعدّ حسنة ، فيكون هذا الفعل حسنا باعتبار ، وسيئا باعتبار .
فإبراهيم الخليل عليه السلام عدّ كذباته التي وقعت منه لله ، وكانت في سبيل الخير والصلاح ، سيئة، واعتذر بسببها عن أن يكون أهلا لأن يشفع في الناس، كما روى البخاري (3361) ، ، ومسلم (194).
ولو حصل مثل هذا من غيره من عموم المسلمين لعدّ من حسناته .
قال ابن الملك رحمه الله :
" وسميت كذبات، وإن كان الخليل عليه السلام أتى بها في صورة المعاريض؛ لكونها في صورة الكذب، والكاملُ قد يؤاخَذ بما هو عبادة في حقِّ غيره، فإن حسناتِ الأبرار سيئاتُ المقربين." انتهى من "شرح المصابيح" (6/56) .
والله أعلم .
أسئلة متعلقة أخري | ||
---|---|---|
لا يوجود محتوي حاليا مرتبط مع هذا المحتوي... |