عنوان الفتوى : حكم إفتاء المقلد بنقله لفتاوى العلماء
طالب العلم المبتدئ يكتب عن الطهارة والصلاة من كتب كثيرة مثل فقه السنة وشرح العمدة ومسائل يطلع عليها من النت فيجمعها، ومع ذلك هو دارس ببعض المعاهد الشرعية لبابي الطهارة والصلاة، وهو متمكن بهما، فهل يحق له التدريس فيهما؟ وإذا سُئلَ عن أمر من أمور الصلاة أو الطهارة وهو عارف به لوجوده عنده، فهل يحق له الإفتاء بذلك؟ أم يكون بهذه الحالة ناقلا وليس مفتيا؟ أم الواجب عليه دراسة جميع أبواب الفقه على مشايخ؟.وجزاكم الله كل خير.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، أما بعد:
فطالب العلم المذكورة صفته ليس من أهل الاجتهاد حتى يحصل آلته، ومن ثم فما يفتي به أو يشرحه إنما هو على سبيل التقليد لمن تعلم منهم هذه المسائل، وهذا جائز لا حرج فيه كما سنبينه، وتفصيل ذلك أن من يتصدون للفتوى على قسمين، فمنهم من هو من أهل الاجتهاد، فهذا يجوز له أن يفتي ولو كان مجتهدا في باب دون آخر، كأن كان عالما بباب الطهارة مثلا مجتهدا في مسائله دون غيره من الأبواب فله أن يفتي في الباب الذي هو مجتهد فيه، قال الشوكاني في إرشاد الفحول: الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: فِي تجزُّؤ الِاجْتِهَادِ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ قَدْ تَحَصَّلَ لَهُ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مَا هُوَ مَنَاطُ الِاجْتِهَادِ مِنَ الْأَدِلَّةِ دُونَ غَيْرِهَا، فَإِذَا حَصَلَ لَهُ ذَلِكَ فَهَلْ له أن يجتهد فيها أو لا، بَلْ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُجْتَهِدًا مُطْلَقًا، عِنْدَهُ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي جَمِيعِ الْمَسَائِلِ؟ فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ إِلَى أَنَّهُ يَتَجَزَّأُ، وَعَزَاهُ الصَّفِيُّ الندي إِلَى الْأَكْثَرِينَ، وَحَكَاهُ صَاحِبُ "النُّكَتِ" عَنْ أَبِي عَلِيٍّ الْجُبَّائِيِّ، وَأَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبَصْرِيِّ. قَالَ ابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ: وَهُوَ الْمُخْتَارُ؛ لِأَنَّهَا قَدْ تُمَكِّنُ الْعِنَايَةُ بِبَابٍ مِنَ الْأَبْوَابِ الْفِقْهِيَّةِ، حَتَّى تَحْصُلَ الْمَعْرِفَةُ بِمَآخِذِ أَحْكَامِهِ، وَإِذَا حَصَلَتِ الْمَعْرِفَةُ بِالْمَآخِذِ أَمْكَنَ الِاجْتِهَادُ. قَالَ الْغَزَالِيُّ: وَالرَّافِعِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْعَالِمُ مُنْتَصِبًا لِلِاجْتِهَادِ فِي بَابٍ دُونَ بَابٍ. انتهى.
وأما القسم الثاني فهم أهل الفتوى بالتقليد، فمن كان ينقل عن غيره كأن يخبر بما في كتاب كذا أو بما قاله فلان من العلماء فإنما يشترط فيه العلم بما يخبر به، ولا يشترط أن يكون مجتهدا، والراجح من الأقوال جواز الفتوى بالتقليد للحاجة وعدم المجتهد.
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في بيان هذه المسألة: هذه المسألة ـ يعني الفتوى بالتقليد ـ فيها ثلاثة أقوال لأصحاب أحمد، أَحَدُهَا: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ الْفَتْوَى بِالتَّقْلِيدِ؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِعِلْمٍ، وَالْفَتْوَى بِغَيْرِ عِلْمٍ حَرَامٌ، وَلَا خِلَافَ بَيْنَ النَّاسِ أَنَّ التَّقْلِيدَ لَيْسَ بِعِلْمٍ، وَأَنَّ الْمُقَلِّدَ لَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ عَالِمٍ، وَهَذَا قَوْلُ أَكْثَرِ الْأَصْحَابِ وَقَوْلُ جُمْهُورِ الشَّافِعِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ ذَلِكَ يَجُوزُ فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِنَفْسِهِ، فَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يُقَلِّدَ غَيْرَهُ مِنْ الْعُلَمَاءِ إذَا كَانَتْ الْفَتْوَى لِنَفْسِهِ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ الْعَالِمُ فِيمَا يُفْتِي بِهِ غَيْرَهُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ بَطَّةَ وَغَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِنَا؛ قَالَ الْقَاضِي: ذَكَرَ ابْنُ بَطَّةَ فِي مُكَاتَبَاتِهِ إلَى الْبَرْمَكِيِّ: لَا يَجُوزُ لَهُ أَنْ يُفْتِيَ بِمَا سَمِعَ مَنْ يُفْتِي، وَإِنَّمَا يَجُوزُ أَنْ يُقَلِّدَ لِنَفْسِهِ، فَأَمَّا أَنْ يَتَقَلَّدَ لِغَيْرِهِ وَيُفْتِيَ بِهِ فَلَا. وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ يَجُوزُ ذَلِكَ عِنْدَ الْحَاجَةِ وَعَدَمِ الْعَالِمِ الْمُجْتَهِدِ، وَهُوَ أَصَحُّ الْأَقْوَالِ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ، قَالَ الْقَاضِي: ذَكَرَ أَبُو حَفْصٍ فِي تَعَالِيقِهِ قَالَ: سَمِعْت أَبَا عَلِيٍّ الْحَسَنَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ النَّجَّادَ يَقُولُ: سَمِعْت أَبَا الْحُسَيْنِ بْنَ بَشْرَانَ يَقُولُ: مَا أَعِيبُ عَلَى رَجُلٍ يَحْفَظُ عَنْ أَحْمَدَ خَمْسَ مَسَائِلَ اسْتَنَدَ إلَى بَعْضِ سَوَارِي الْمَسْجِدِ يُفْتِي بِهَا. انتهى، فمن كان ضابطا لقول من ينقل عنه الفتوى جاز له أن يفتي بقول هذا العالم ناسبا القول إليه، وليس هذا اجتهادا وإنما هو فتوى بالتقليد وهي سائغة كما مر.
والله أعلم.