عنوان الفتوى : حول المذهبية واعتقاد صحة جميع أقوال عالم بعينه وصحة كل ما في الكتب الستة
خالطت قوما من الأحناف، فوجدتهم يبغضون علماء السعودية؛ لأنهم لا يتقيدون بالمذهب الحنبلي، ويسمونهم بأهل الحديث، هؤلاء لديهم أصول مختلفة عما تعلمناه في الديار السعودية، منها: 1. أنه لا بد لكل أحد أن يتقيد بمذهبه تقيدا تاما؛ لأن الأقدم أعرف من المتأخر، واطلع على مالم يطلع عليه غيره. 2. أنهم يفهمون قول أبي حنيفة رحمه الله المشهور:(إذا صح فهو مذهبي) أن جميع مذهبه صحيح دون استثناء؛ لأنهم يقطعون أنه عمل بالأحاديث الصحيحة، بل لم تظهر الأحاديث الضعيفة-على زعمهم-إلا بعد القرون الثلاثة المفضلة. 3. أن جميع الأحاديث المجموعة في الكتب الستة، وغيرها صحيحة بغض النظر عما اصطلح عليه المحدثون من تقسيمها إلى صحيح، وحسن و....، وأن التقسيم لتبيين درجة الحديث لا غير، ويمثلون لذلك بالخلفاء الراشدين أنهم سواء في العدالة، لكنهم ذكروا على الترتيب المعروف لتبيين درجة كل واحد منهم، وإعطائه حقة من التعظيم. 4. ويستثنون من تلك الأحاديث الموضوعات فقط، ويعتمدن في معرفتها على كتاب جمعت فيه الموضوعات-لا أذكره تحديدا-قد يكون للسيوطي أو غيره. هذا بعض ما يعتقدونه، ذكرته باختصار، أرجو بذلك منكم أن توضحوا لي الحق، وكيف على أرد على من يحاجني بها. وجزاكم الله خيرا.
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله، وصحبه، أما بعد:
فليس ما يزعمه هؤلاء القوم بسديد، بل هم مخطئون في عامة ما نسبته إليهم.
فأما وجوب التقيد بمذهب معين، بحيث لا يخرج عليه الشخص في قليل، ولا كثير، فدعوى باطلة، فإن الله لم يوجب على عباده اتباع أحد بعينه سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وغاية هذه المذاهب أن يكون تقليدها سائغا، ومن اتضح له الحق في خلاف مذهبه، وجب عليه ترك هذا المذهب، واتباع ما يراه حقا، وأصحاب أبي حنيفة أنفسهم فعلوا هذا، اقتداء به، واتباعا لما أوصى به من تعظيم الحديث، وتقديمه على كل ما عداه، فأبو يوسف، ومحمد، وزفر قد خالفوا أبا حنيفة في كثير من المسائل، مع كونه أجل منهم، وأعظم قدرا، ولم يقل واحد منهم إن أبا حنيفة أعلم بالنص، وأدرى بالحجة منا، فيتركون الحجة لقوله، بل أجلوا إمامهم، وعظموه مع اعتقادهم أنه ليس معصوما، وأنه قد يخفى عليه بعض النصوص، فإذا ظهر لهم الحق بخلاف قوله، تركوا قوله متابعة للنص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله-: وهؤلاء الأئمة الأربعة -رضي الله عنهم- قد نهوا الناس عن تقليدهم في كل ما يقولونه، وذلك هو الواجب عليهم؛ فقال أبو حنيفة: هذا رأيي، وهذا أحسن ما رأيت؛ فمن جاء برأي خير منه قبلناه؛ ولهذا لما اجتمع أفضل أصحابه أبو يوسف، بمالك، فسأله عن مسألة الصاع؛ وصدقة الخضراوات؛ ومسألة الأجناس؛ فأخبره مالك بما تدل عليه السنة في ذلك، فقال: رجعت إلى قولك يا أبا عبد الله، ولو رأى صاحبي ما رأيت، لرجع إلى قولك، كما رجعت. انتهى.
وهؤلاء العلماء الذين يخرجون عن المذهب الحنبلي، إنما يخرجون عن قول أحمد إلى قول من هو مثله من الأئمة، ولا يخالفون إجماع الأمة؛ فإن إجماعها معصوم، وهذا كما خالف أبو يوسف، أبا حنيفة، وأخذ بقول مالك، فأي تبعة، وأي تثريب على حنبلي خالف أحمد في مسألة، وأخذ فيها بقول الشافعي مثلا، لكونه اعتقد أنه أقرب إلى السنة، إذا لم يكن على أبي يوسف تثريب فيما فعل، بل هو فيه مأجور، فاعل ما وجب عليه.
وأما ادعاء أن الأحاديث الضعيفة إنما وجدت بعد عصر الأئمة، وانقراض القرون الفاضلة، فكلام منكر باطل، وذلك أن الكذب في الحديث، والغلط فيه، والوهم، عرف قبل ذلك، يدلك على هذا ما أخرجه مسلم في مقدمة الصحيح، عن مجاهد قال: جاء بشير العدوي إلى ابن عَبَّاسٍ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ، وَيَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَجَعَلَ ابْنُ عَبَّاسٍ لَا يَأْذَنُ لِحَدِيثِهِ، وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِ، فَقَالَ: يَا ابْنَ عَبَّاسٍ، مَالِي لَا أَرَاكَ تَسْمَعُ لِحَدِيثِي، أُحَدِّثُكَ عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا تَسْمَعُ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: "إِنَّا كُنَّا مَرَّةً، إِذَا سَمِعْنَا رَجُلًا يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ابْتَدَرَتْهُ أَبْصَارُنَا، وَأَصْغَيْنَا إِلَيْهِ بِآذَانِنَا، فَلَمَّا رَكِبَ النَّاسُ الصَّعْبَ، وَالذَّلُولَ، لَمْ نَأْخُذْ مِنَ النَّاسِ إِلَّا مَا نَعْرِف. اهـ.
فدلك هذا على أن السلف كانوا يتحرون الحديث، فلا يأخذون إلا بما يصح، وأن هذا وجد قبل عصر الأئمة، وقبل ولادة أبي حنيفة، فكيف يدعى بعد هذا، أن كل ما يحتج به أبو حنيفة، أو غيره، صحيح؛ لأن الأحاديث الضعيفة لم تكن عرفت؟!
وأما دعوى أن كل ما في الكتب الستة صحيح، فكلام عار عن العلم بمرة، بل كل من شم رائحة الحديث، يعرف أن ما عدا الصحيحين قد اشتمل على الحسن، والضعيف، بل ربما وقع في تلك الكتب شيء من المنكرات، والموضوعات، وإذا كان أصحاب تلك الكتب كأبي داود، والترمذي، والنسائي يحكمون على كثير مما يخرجونه بالضعف، أو الخطأ، أو النكارة فكيف يزعم بعد هذا صلاحية جميع ما أخرجوه للاحتجاج.
والحاصل أن هذه إشارة عجلى إلى بعض خطئهم فيما ذكرت عنهم، وتفصيل القول في هذه المسائل الكبار لا تحتمله هذه الفتاوى المختصرة، فعليك بطلب العلم على أهله الراسخين فيه، المعظمين للسنن، المتبعين لها، العارفين بأقدار الأئمة، المنزلين أهل العلم منازلهم، بحيث لا يغلون فيهم، فيوجبون اتباعهم، وينزلون أقوالهم منزلة أقوال المعصوم، ولا يجفون عنهم، فينتقصوهم، أو يزدروهم، بل نحن نعرف أقدار أئمة الإسلام، وأنهم الذين منَّ علينا الله بهم، فحملوا إلينا هذا العلم الشريف، وعلمونا طرائق الاستدلال، والاحتجاج، فلا نخرج عن قول العالم، والإمام منهم إلا إلى قول من هو مثله، أو أكبر منه، ولا نخالف إجماعهم؛ فإن إجماعهم حجة.
والله أعلم.