عنوان الفتوى : هل يمكن لأحد في الجنة ، أن يكون في مرتبة أعلى من الأنبياء ؟
في حديث الاسراء و المعراج، عندما ذهب النبي صلى الله عليه و سلم إلى الجنة وفي كل مرتبة قابل نبي، هل هذه مرتبتهم في الجنة بالنسبة لجزائهم ؟ أنا أعلم عندما ندعو الله سبحانه وتعالى يجب علينا أن نسأله أعلى المراتب في الجنة وهي الفردوس. ويجب علينا دائماً أن نحسن الظن بالله سبحانه وتعالى، لكن هل يمكننا أن نتوقع أن نكون في أعلى مرتبة في الجنة إذا كان الأنبياء في مراتب أخرى ؟
الحمد لله.
أولا :
أهل الجنة يتفاوتون في المنازل بينهم ، وأعلى أهل الجنة منزلة هم الأنبياء ، ثم الأمثل فالأمثل .
ينظر جواب السؤال (126349) .
وما ورد في أحاديث الإسراء والمعراج من لقاء النبي صلى الله عليه وسلم لأبيه آدم عليه السلام في السماء الأولى، ويحيى وعيسى في السماء الثانية ، ويوسف في الثالثة ، وإدريس في الرابعة ، وهارون في الخامسة ، وموسى في السادسة ، وإبراهيم في السابعة ، فهو ليس بحسب مراتبهم وفضلهم ، ولو كان الأمر كذلك لكان عيسى عليه السلام في منزلة أدنى من منزلة إدريس ويوسف ؛ لأن عيسى عليه السلام في السماء الثانية وهو من أولي العزم من الرسل وأما يوسف وإدريس فهما في الثالثة والرابعة ، ومعلوم أن أولي العزم من الرسل هم أفضل الأنبياء .
وقد ذكر بعض أهل العلم "لطيفة" ، و"نكتة" في اختصاص هؤلاء الأنبياء بهذه السماوات ، على ما حكاه ابن حجر عن ابن أبي جمرة ، في "فتح الباري" (7/211) :
"الحكمة في كون آدم في السماء الدنيا: لأنه أول الأنبياء ، وأول الآباء ، وهو أصل ؛ فكان أولا، في الأولى، ولأجل تأنيس النبوة بالأبوة، وعيسى في الثانية لأنه أقرب الأنبياء عهدا من محمد، ويليه يوسف لأن أمة محمد تدخل الجنة على صورته، وإدريس في الرابعة لقوله: ورفعناه مكانا عليا والرابعة من السبع وسط معتدل، وهارون لقربه من أخيه موسى، أرفع منه لفضل كلام الله، وإبراهيم لأنه الأب الأخير فناسب أن يتجدد للنبي صلى الله عليه وسلم بلقيه أنس لتوجهه بعده إلى عالم آخر ..." انتهى من "فتح الباري" (7/211) .
وأيما ما كان الأمر في ذلك ؛ فالحديث لم يأت في سياق بيان درجاتهم وتفاضلهم .
ثانيا :
صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الجنة درجات متفاوتة ، وأعلاها جنة الفردوس ، وسقفها عرش الرحمن سبحانه وتعالى .
روى البخاري (2790) عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إِنَّ فِي الْجَنَّةِ مِائَةَ دَرَجَةٍ أَعَدَّهَا اللَّهُ لِلْمُجَاهِدِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا بَيْنَ الدَّرَجَتَيْنِ كَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ، فَإِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ فَإِنَّهُ أَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَأَعْلَى الْجَنَّةِ أُرَاهُ فَوْقَهُ عَرْشُ الرَّحْمَنِ ، وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ ) .
وجنة الفردوس درجات أيضا ، وأعلاها درجة الوسيلة ، وهي منزلة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
روى الترمذي (3612) عن أبي هُرَيْرَةَ ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( سَلُوا اللَّهَ لِيَ الوَسِيلَةَ) ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الوَسِيلَةُ ؟ ، قَالَ : ( أَعْلَى دَرَجَةٍ فِي الجَنَّةِ ؛ لَا يَنَالُهَا إِلَّا رَجُلٌ وَاحِدٌ ، أَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَنَا هُو َ) وصححه الألباني في " صحيح الترمذي " .
وروى أحمد (11783) عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيَّ قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( الْوَسِيلَةُ دَرَجَةٌ عِنْدَ اللهِ لَيْسَ فَوْقَهَا دَرَجَةٌ ، فَسَلُوا اللهَ أَنْ يُؤْتِيَنِي الْوَسِيلَةَ ) .
والنبيون عليهم السلام هم أعلى أهل الجنة منزلة ، ولن يفوقهم أحد من البشر .
ودخول غير النبيين جنة الفردوس مع الأنبياء ، كما في قوله تعالى ( وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحِينَ ) ، لا يدل على أنهم سيكونون في درجة مثلهم أو أعلى منهم ، بل من المعية أن يكونوا في دار واحدة مع اختلاف مراتبهم ، ومن المعيّة أن لا تفوتهم رؤية الأنبياء ومجالستهم ، كما أن النبي صلى الله عليه وسلم مع إخوته الأنبياء في الفردوس ، ولكنه في منزلة أعلى منهم .
قال ابن عطية :
" ومعنى- أنهم معهم- أنهم في دار واحدة، ومُتَنَعَّمٍ واحد... وإن كنا نحن قد علمنا من الشريعة أن أهل الجنة تختلف مراتبهم على قدر أعمالهم، وعلى قدر فضل الله على من شاء " انتهى من "المحرر الوجيز" (2/76) .
وقال في تفسير الآية بعدها (ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفى بِاللَّهِ عَلِيماً) :
" وقوله تعالى: ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ رد على تقدير معترض يقول، وما الذي يوجب استواء أهل الطاعة والنبيين في الآخرة، والفرق بينهم في الدنيا بيّن؟
فذكر الله أن ذلك بفضله ، لا بوجوب عليه، والإشارة بـ(ذلِكَ) : إلى كون المطيعين مع المنعم عليهم .
وأيضا فلا نقرر الاستواء، بل هم معهم في دار ، والمنازل متباينة . " انتهى .
وقال البغوي :
" قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ الْآيَةَ، نَزَلَتْ فِي ثَوْبَانَ مَوْلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَانَ شَدِيدَ الْحُبِّ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَلِيلَ الصَّبْرِ عَنْهُ، فَأَتَاهُ ذَاتَ يَوْمٍ وَقَدْ تَغَيَّرَ لَوْنُهُ يُعْرَفُ الْحُزْنُ فِي وَجْهِهِ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَا غَيَّرَ لَوْنَكَ"؟ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا بِي مَرَضٌ وَلَا وَجَعٌ غَيْرَ أَنِّي إِذَا لَمْ أَرَكَ اسْتَوْحَشْتُ وَحْشَةً شَدِيدَةً حَتَّى أَلْقَاكَ، ثُمَّ ذَكَرْتُ الْآخِرَةَ فَأَخَافُ أَنْ لَا أَرَاكَ لِأَنَّكَ تُرْفَعُ مَعَ النَّبِيِّينَ، وَإِنِّي إِنْ دَخَلْتُ الْجَنَّةَ كُنْتُ فِي مَنْزِلَةٍ أَدْنَى مِنْ مَنْزِلَتِكَ، وَإِنْ لَمْ أَدْخُلِ الْجَنَّةَ لَا أَرَاكَ أَبَدًا، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ .
وَقَالَ قَتَادَةُ: قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَيْفَ يَكُونُ الْحَالُ فِي الْجَنَّةِ وَأَنْتَ فِي الدَّرَجَاتِ الْعُلَى وَنَحْنُ أَسْفَلُ مِنْكَ؟ فَكَيْفَ نَرَاكَ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ :
وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، وَالرَّسُولَ فِي السُّنَنِ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ أَيْ : لَا تَفُوتُهُمْ رُؤْيَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَمُجَالَسَتُهُمْ ؛ لَا أَنَّهُمْ يُرْفَعُونَ إِلَى دَرَجَةِ الْأَنْبِيَاءِ" انتهى من "تفسير البغوي" (2/247) .
والمهم أن يسعى العبد بالجد والاجتهاد ، والتشمير في طاعة الله وابتغاء مرضاته ، وأن يكون سعيه وعمله : لنيل تلك المنازل ؛ وأن لا يكون حظه من ذلك الكلام والأماني !!
وينظر جواب السؤال (135085) .
والله أعلم .